تعزية باردة ومواساة لغوية

لم تصل تعزية رئيس الحكومة إلى آسفي متأخرة فقط، بل وصلت باردة إلى حد الإهانة. باردة كأنها صادرة عن نشرة أحوال جوية لا عن قلب دولة يفترض أن يرتجف حين تُجرف أرواح مواطنيها تحت سيول الغضب والإهمال. كلمات بلا نبض، عبارات بلا روح، أداء بروتوكولي أقرب إلى رفع العتب منه إلى الاعتراف بحجم الفاجعة.

في آسفي، لم يكن الفيضان حادثاً عرضياً ولا خبراً عابراً يُستهلك في نشرة مسائية. كان موتاً كاملاً يمشي في الشوارع، وبيوتاً ابتلعها الماء، وأجساداً انتُزعت من الحياة بعنف، وأحلاماً دُفنت تحت الطين. لذلك، حين جاءت التعزية على هذا القدر من البرودة، شعر بها المسفيويون كطعنة ثانية، أقل دموية من السيل، لكنها أشد قسوة على الكرامة.

كان يُنتظر من رئيس الحكومة ما هو أكثر من جملة مصاغة بعناية لغوية تحت قبة البرلمان. كان يُنتظر حضوراً، ولو رمزياً، استنفاراً سياسياً وأخلاقياً يرقى إلى مستوى فاجعة وطنية. كان يُنتظر أن تنزل الحكومة من علُ، من لغة التبرير الجاهزة، لتقف وجهاً لوجه أمام الألم. فالفواجع لا تُدار عن بُعد، ولا تُواسَى من خلف الميكروفونات، ولا تُختزل في الحديث عن تساقطات استثنائية كأن السماء وحدها هي المتهمة.

ما وقع في آسفي ليس قضاءً وقدراً يُعلّق على مشجب الطبيعة، بل نتيجة مباشرة لسنوات من الإهمال، وسياسات الترقيع، وبنية تحتية هشة تُلمَّع في التقارير وتنهار عند أول اختبار حقيقي. هو حصيلة منطق حكومي لا يتحرك إلا بعد أن تقع الكارثة، ولا يرى في الضحايا سوى أرقام قابلة للإحصاء، لا حيوات تستحق الحماية المسبقة.

حين تُعامل الفاجعة وكأنها حادثة سير، وحين تُختزل الأرواح في بلاغ تعزية بارد، فإن الرسالة التي تصل إلى الناس خطيرة وواضحة: أن موتهم لا يستحق عناء الانتقال، وأن حزنهم لا يستوجب استنفار الدولة، وأن أقصى ما يمكن أن يُقدَّم لهم هو كلمات عامة تُقال ثم يُطوى الملف.

خرجت آسفي غاضبة، لا لتزايد ولا لتستثمر في الدم، بل لتصرخ في وجه اللامبالاة: من ابتلعهم السيل ليسوا أرقاماً في سجلات الحكومة، بل آباء وأمهات، شباباً وأطفالاً، قصصاً قُطعت فجأة، ومستقبلاً كان من الممكن إنقاذه لو وُجدت إرادة حقيقية للوقاية لا ثقافة دائمة للتبرير.

التعزية ليست نصاً يُقرأ، بل موقفاً يُجسَّد. والدولة، حين تغيب في لحظة الفقد، تفقد جزءاً من معناها وهيبتها، مهما كثرت بلاغاتها. كان على الحكومة أن تعلن بوضوح أن ما حدث في آسفي فاجعة وطنية، لا مجرد حادث عرضي، وأن تتحمل مسؤوليتها السياسية قبل أن توزع عبارات المواساة.

ستجف مياه الفيضان، لكن ذاكرة المدينة لن تجف. سيبقى السؤال معلقاً في وجدان آسفي: هل كانت هذه الأرواح تستحق أكثر من تعزية باردة؟ وهل تدرك الحكومة أن برودة الموقف، أحياناً، تكون أشد فتكاً من عنف السيول نفسها؟


هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من جريدة كفى

منذ 6 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 9 ساعات
Le12.ma منذ 15 ساعة
آش نيوز منذ 17 ساعة
وكالة الأنباء المغربية منذ 16 ساعة
هسبريس منذ 8 ساعات
هسبريس منذ ساعتين
هسبريس منذ 6 ساعات
هسبريس منذ 14 ساعة