الفنانة المغربية راوية .. ممثلة موهوبة حمَلت وجعَ الوطن إلى الكاميرا

المرأة التي جعلت الكاميرا تتلعثم

من أين جاءت راوية، حقًّا؟ من أي أفق خرج هذا الوجه الذي يبدو كأنه يحمل قرنًا كاملًا من التعب في تجعيدةٍ واحدة حول العين؟ كيف استطاعت امرأةٌ بسيطة المظهر أن تقلب معادلة الصورة فتجعلنا نصدّق الألم قبل الحوار، ونرى التاريخ في نظرة عابرة أكثر مما نراه في مشهد كامل؟ ماذا فعلت راوية بالكاميرا حتى صارت تلاحقها كما لو كانت تعترف لها بشيءٍ قديم، وماذا فعلت بنا نحن حتى أصبحنا نبحث عن ظلّها في كل امرأة صلبة، صامتة، أو غاضبة؟ أكانت مجرّد ممثلة تؤدي دورها بإتقان، أم كانت سؤالًا حيًّا يتجوّل في جسد امرأة مغربية تقول، دون أن تنطق: هل رأيتم حقًّا كيف نعيش؟

أكتب اليوم عن راوية وأنا أشعر بشيءٍ من الحرج؛ فأنا لست ناقدًا سينمائيًا، ولا أزعم امتلاك عدّة المحترفين الذين يفككون اللقطة ويقيسون الضوء والظلّ بمسطرة النّظريات. أنا مجرّد متابع من بعيد، خلف شاشة باردة، يتعقّب الوجوه أكثر مما يتعقّب الأسماء، ويصغي للتجارب أكثر مما يحفظ عناوين الأفلام. أراقب، أصمت طويلًا، ثم أكتب حين يفرض المشهد نفسه على قلبي قبل ذاكرتي. ربما أبدو متفرّجًا خجولًا لا يكتب عن السينما كما يفعل النقّاد، لكن ما أدوّنه عنها يشبه الاعتراف أكثر مما يشبه المقال، ويشبه الامتنان لامرأة مثل راوية جعلت حتى المتابع من الهامش يشعر بأنّ عليه أن يقول شيئًا، ولو متعثّرًا، في حضرة هذا الحضور الاستثنائي.

امرأة صنعت مسارها من تعب النساء وهدوء الأساطير

راوية… امرأة ظهرت في “الكادر” كما لو أنّها خرجت من حكاية قديمة تذكّرت فجأة أن لها جسدًا وصوتًا وملامح. لم تدخل السينما من الباب، وإنما شقّت لها ممّرًا خاصًا وسط الزّحام، تمشي فيه وحدها، وتجرّ خلفها أسئلة كاملة عن المرأة، عن الفقر، عن الكرامة، وعن ذاك الخليط الغريب بين القسوة والحنان الذي سكن ملامحها. كانت كل نظرة منها تشبه ضربة مطرَقة على جدار صمت طويل، وكل جملة تنطقها كأنها تفتح شقًّا صغيرًا في جدار الصورة المغربية المعتادة. هكذا، ببطء عنيد، صارت راوية لا تؤدي الأدوار فحسب، وإنما تعيد رسم حدود ما يمكن لامرأة مغربية أن تكونه على الشاشة.

لم تكن راوية مجرّد اسم يمرّ خفيفًا في ذاكرة السينما المغربية؛ كانت جرسًا نحاسيًا يضرب في أعماق الروح كلما ظهرت على الشاشة. جاءت من الهامش، لكنها ما إن بدأت تُلقي أولى جُملها أمام الكاميرا حتى صار الهامش نفسه هو المركز، وصارت شخصياتها، تلك الممزقة، الصلبة، العاصفة، مرآة صادقة لامرأة مغربية لا تتكرّر، امرأة تُحسن أن تحمل وزن الحياة دون أن تكسرها الحياة. على مدى عقود، لم تلجأ راوية إلى الاصطناع، اختارت الصدق الخام، ذاك الذي يشبه رائحة الخبز في الصباح حين يفوح من دار قديمة في المدينة العتيقة. لعبت أدوارًا لا تُنسى: الأم التي تخفي قلقها تحت شالٍ مرقّط، المرأة التي تقاوم مجتمعًا يضع النساء في الهواء لا في الأرض، الجدة التي تعرف كيف تقول الحكمة بحنان. وفي كل تلك الوجوه، كانت راوية تحمل شيئًا أكبر من تمثيل… كانت تحمل جراحها وأحلامها وذاكرة جيلٍ بأكمله.

حين قال القلب ما عجز اللسان عن ترتيبه

في ليلةٍ دافئة من ليالي مراكش، تدخل راوية بسيرتها الثقيلة وخفتها البديعة إلى منصة التكريم. تصعد الدرجات كما لو أنها تصعد ذاكرة السينما نفسها. يصفّق الجمهور طويلًا، ليس لأنهم أمام نجمة، وإنما لأنهم أمام امرأة تُشبه البلاد كلها: قوية حين يجب، وهشّة حين يلزم الهشاشَة.

تقف أمام الميكروفون، ترتجف قليلاً، ثم تقول بصوت يخرج من عمقٍ لم نعرفه إلا فيها:

“أنا بنت هذا الوطن… كبرت وأنا أبحث عن وجهٍ يشبهني في الشاشة، وعندما لم أجده، قرّرت أن أصنعه. اشتغلتُ بالحلم أكثر مما اشتغلتُ بالكاميرا، وحملتُ في قلبي كل النساء اللواتي لم يُمنحن فرصة أن يقولن شيئًا. هذا التكريم ليس لي وحدي… هو لوجوه أمي وجاراتها، لوجوه المغرب التي لا تُرى ولا تُسمع إلا حين نُصغي إليها بصدق”. يسقُط من عينها دمْعٌ خفيفٌ، كأنّه توقيعٌ أخير على وثيقة عمرها الفني. تضيف، وهي تبتسم ابتسامة لها نبرة اعتذار ونبرة قوة معًا: “شكراً لمن صدّق أن القلب يمكن أن يكون مدرسة في التمثيل… وشكراً للسينما لأنها سمحت لي أن أعيش أعمارًا كثيرة في عمرٍ واحد.” وينفجر الجمهور بالتصفيق، لا لأنهم يباركون فقط، وإنما لأنهم يفهمون أن تلك المرأة التي تقف أمامهم قد صنعت، بمِلْحِ الدّموع وقسوة الأيام، فنًّا يجعل الإنسان أكثر إنسانية.

حين تؤدّي امرأة دور كل النساء

في الخلفية، كانت شاشةٌ عملاقة تعرض مقاطع من أهم أعمالها: وجهها المضيء تحت ضوءٍ خافت، يدها التي ترتجف وهي تمسح دمعة طفل، صرختها الشهيرة في أحد الأفلام التي أصبحت جزءًا من الذاكرة الشعبية. يخيّل للحاضرين أن التاريخ نفسه يُعيد ترتيب نفسه من أجلها، لتصبح لحظة تكريم راوية أكثر من احتفال، وإنما مرثية للزمن الجميل ونداءً للاستمرار في صناعة سينما تشبه الناس. أمامها، كان المخرجون والممثلون.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من هسبريس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من هسبريس

منذ ساعتين
منذ ساعتين
منذ 4 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 11 ساعة
منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 12 ساعة
هسبريس منذ 16 ساعة
Le12.ma منذ 14 ساعة
هسبريس منذ 11 ساعة
آش نيوز منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 16 ساعة
هسبريس منذ 3 ساعات
هسبريس منذ 13 ساعة