شكل شهر دجنبر 2025 منعطفا جديدا في مسار حكومة عزيز أخنوش، التي واجهت منذ تنصيبها سلسلة متصلة من الكوارث الطبيعية والبشرية، وضعت منظومة التدبير العمومي أمام امتحان عسير كشفته فاجعتا فاس وآسفي اللتان حولتا شعارات الدولة الاجتماعية إلى تساؤلات حارقة حول جدوى البرامج التنموية وقدرة البنيات التحتية على الصمود أمام المخاطر المتزايدة، في ولاية سجلت أعلى معدلات الخسائر مقارنة بجميع الولايات الحكومية السابقة.
وبلغة الأرقام الدامغة المستندة إلى المعطيات الرسمية، تتصدر الولاية الحالية قائمة الفترات الأكثر كلفة بشريا وماديا في تاريخ المغرب الحديث بحصيلة ثقيلة تجاوزت 3065 قتيلا، وهو رقم يفوق مجموع ضحايا حكومات سعد الدين العثماني وعبد الإله بنكيران وعباس الفاسي وإدريس جطو وعبد الرحمن اليوسفي مجتمعة، حيث خلف زلزال الحوز وحده 2960 ضحية وأكثر من 6125 جريحا مع فاتورة إعادة إعمار ناهزت 120 مليار درهم، تضاف إليها 37 وفاة في فيضانات آسفي الأخيرة، و 22 قتيلا في انهيار عمارة فاس، و 18 ضحية بفيضانات الجنوب الشرقي، و 28 غريقا في معمل طنجة السري.
وفي هذا السياق، كشفت حادثة انهيار العمارتين بحي المستقبل في فاس عن اختلالات عميقة في قطاع التعمير، بعدما خلف الانهيار المفاجئ 22 قتيلا و 16 مصابا بجروح متفاوتة الخطورة، وأظهرت التحقيقات الأولية وجود خروقات جسيمة تمثلت في إضافة طوابق عشوائية دون دراسات تقنية فوق بناية حصلت على رخصتها سنة 2006، ما يضع لجان المراقبة والسلطات المحلية أمام مسؤولياتها القانونية والإدارية بخصوص التغاضي عن مخالفات حولت مباني سكنية إلى مشاريع موت محقق.
ولم يختلف المشهد كثيرا في حاضرة المحيط آسفي، التي غرقت شوارعها وأحياؤها تحت سيول جارفة خلفت 37 قتيلا وخسائر مادية جسيمة في الممتلكات الخاصة والعامة، عرت واقع البنية التحتية المتهالكة وشبكات الصرف الصحي العاجزة عن استيعاب التساقطات المطرية، رغم الميزانيات الضخمة المرصودة لبرامج التأهيل الحضري والحماية من الفيضانات التي لم تنجح في تجنيب المدينة الصناعية هذا السيناريو الأسود، الذي أعاد طرح إشكالية التدبير الاستباقي للأزمات.
ولا تتوقف الخسائر عند حدود لغة الأرقام، بل تمتد لتنخر النسيج الاجتماعي للأسر المنكوبة التي وجدت نفسها فجأة بلا معيل أو مأوى، فخلف كل رقم من أرقام الضحايا توجد وضعيات اجتماعية صعبة لأيتام وأرامل فقدوا السند ومصدر الرزق الوحيد، ليواجهوا مصيرا مجهولا في ظل غياب آليات تعويض فعالة وفورية تقيهم ذل السؤال وقسوة العيش بعدما جرفت السيول أو طمرت الأنقاض كل ما يملكون، تاركة جرحا غائرا في الذاكرة الجماعية للأحياء المتضررة.
وعند العودة إلى أرشيف الكوارث السابقة، تظهر المقارنة تباينا واضحا في حجم الخسائر المسجلة، حيث لم تتجاوز حصيلة زلزال الحسيمة المدمر في عهد حكومة إدريس جطو 628 ضحية، بينما وقفت فيضانات الجنوب سنة 2014 في ولاية عبد الإله بنكيران عند حاجز 47 قتيلا، وسجلت ولاية سعد الدين العثماني أدنى المعدلات، مما يجعل الفترة الحالية استثناء رقميا وميدانيا يجمع بين قسوة الظواهر الطبيعية وهشاشة آليات التدخل وضعف التجهيزات الأساسية التي تهاوت أمام أولى الاختبارات الحقيقية.
وبالموازاة مع تدبير آثار هذه الفواجع التي استلزمت تعبئة الموارد المالية للصناديق الخاصة بالطوارئ، تكشف البيانات الرسمية عن منحى آخر في تدبير المال العام، إذ رصدت الحكومة اعتمادات مالية ضخمة للأنشطة الترفيهية، فعلى سبيل المثال، شهدت سنة 2025 عودة قوية للمهرجانات الكبرى بميزانيات ضخمة، حيث تجاوز الغلاف المالي المخصص لدعم المهرجانات والتظاهرات الثقافية سقف 80 مليون درهم خلال الموسم الحالي، فيما تشير التقديرات إلى تنظيم ما يناهز 1200 مهرجان وتظاهرة فنية في مختلف جهات المملكة خلال السنة الأخيرة، وهو الرقم الأعلى على الإطلاق في تاريخ التظاهرات الفنية بالمغرب، ما يضع الرأي العام أمام تباين رقمي واضح بين حجم الإنفاق على الفرجة وبين الخصاص المسجل في تمويل البنيات التحتية الوقائية في المناطق المنكوبة.
اقتصاديا، استنزفت هذه الأحداث المتوالية ميزانية الدولة وأثرت بشكل مباشر على التوازنات الماكروإقتصادية، نتيجة الاضطرار إلى رصد اعتمادات مالية ضخمة وبرامج استعجالية لإيواء المتضررين وإصلاح ما دمرته الكوارث، ما ساهم في ارتفاع مؤشرات المديونية والتضخم وتوجيه الموارد المالية نحو تدبير الأزمات بدلا من الاستثمار في القطاعات الاجتماعية والإنتاجية التي ينتظرها المواطنون لتحسين معيشهم اليومي.
هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى
