حين تنفلت الصورة خارج إطارها

في زمن لم تعد فيه الوقائع تروى بل تلتقط ،ولم يعد الحدث هو ما وقع فعلا بل ما ظهر في صورة منفلتة،او ما بدا عليه في مقطع تائه او ما امكن اقتطاعه من سياقه ليعرض وحيدا عاريا من ملابس وملابسات الزمن .هنا تبدأ الحكاية.

الصورة في ذاتها ليست لا حقيقة ولا كذبا انها لحظة مجمدة. لكنها حين تلقى في فضاء الشبكات الاجتماعية ،تتحول الى مادة خام لاسقاطات لا حصر لها .نوايا تفترض واخلاق تدان اشخاص يحاكمون وعائلات تستباح. وكل ذلك انطلاقا من مشهد واحد لا يعرف قبله ولا بعده.

ما وقع في هذه الواقعة المظلة -بعيدا عن الاشخاص -يفتح سؤالا اعمق.هل ما زلنا نميز بين الفعل وسياقه ؟بين الرمزي والعرضي ؟بين النقد والمطاردة؟

في الفلسفة الاخلاقية، لا يحاكم الفعل الا داخل شروطه الاربعة :الزمان والمكان والقصد والنتائج .اما في منطق الشبكات الاجتماعية فهذه الشروط تلغى دفعة واحدة لا يطلب تفسير ولا يمنح وقت للفهم لان الادانة السريعة اكثر جاذبية من التفكير البطيء .وهكذا تستبدل الاخلاق بالانطباع ويستبدل العقل (بالترند) Trend .

هذا السلوك خطير ،ليس لانه غير عادل فقط بل لانه كسول معرفيا ويريح الضمير الجمعي من عبء التحليل ويمنحه شعورا زائفا بالتفوق الاخلاقي. نحن ندين اذن نحن انقياء ،غير ان المعرفة تعلمنا عكس ذلك .فالحكم السريع غالبا ما يكون قناعا لفراغ التفكير.

نعم الشخصية العمومية خاضعة للنقد والمساءلة والمراقبة وعليها رفع منسوب الاحتياط .لكن ذلك لا يعني تجريدها من انسانيتها ،ولا تحويل كل حركة يومية وكل تفصيل عابر الى دليل ادانة فالصفة العمومية لا تلغي الحق في الحياة الخاصة .ولا تسقط حتى الحق في الخطأ العادي ولا تبرر القسوة الرمزية.

احد ابرز المدافعين عن حرية التعبير (جون ستيوارت ميل) قال ذات يوم ان الحرية ،لا تعني الحاق الاذى غير المبرر بالاخرين.

وفي حالتنا هذه يصبح السؤال مشروعا .ما الفائدة العامة من هذا التشهير واي حق حُمِي ؟ واي مصلحة خدمت؟

المفارقة المؤلمة ان بعض من يفترض فيهم التعقل ،انساقوا بدورهم الى هذه الزوبعة لا بدافع البحث عن الحقيقة ،بل بدافع الاصطفاف او تصفية الحسابات ،او مجاراة المزاج العام .وهنا يتحول الفضاء الرقمي من ساحة نقاش ،الى قطيع رمزي يكافئ الصوت الاعلى لا الرأي الاعمق.

لسنا إذن امام مشكلة صورة بل امام ازمة ثقافة، ثقافة لا تحتمل التعقيد ولا تصبر على التفسير ولا ترى في الانسان الا ما يختزل في لقطة.

وفي النهاية قد يكون الدرس الاهم هو هذا:

ايٌ مِنا ،شخصية عمومية كانت او مواطنا عاديا، قد يجد نفسه يوما في صورة خرجت عن سياقها ،وفي لحظة لم تمنح حقها في الفهم .فحينها لن نحتاج الى دفاع ،بقدر ما نحتاج الى مجتمع يتقن فن التريث ،ويؤمن بان الكرامة لا تجزأ وان العقل لا يختصر في منشور.

ليبقى الرهان الحقيقي في نهاية المطاف قائما على معنى العيش المشترك في زمن الصورة.


هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من جريدة كفى

منذ 3 ساعات
منذ ساعة
منذ 19 دقيقة
منذ 3 ساعات
منذ ساعة
منذ ساعتين
Le12.ma منذ 17 ساعة
Le12.ma منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 7 ساعات
هسبريس منذ 23 دقيقة
Le12.ma منذ 10 ساعات
هسبريس منذ 15 ساعة
هسبريس منذ 8 ساعات
2M.ma منذ ساعة