فيلم “الهارب” يعيد صياغة أسطورة البطولة على إيقاع الخوف والهشاشة

ينبثق الفيلم الأمريكي الشهير The Hustler كَوَمْضَةٍ تخلخل يقين الروح قبل أن تضيء عتمتها، فيلمًا يتقدّم بخفة شاعرٍ يعرف أن جمال الحقيقة يكمن في جرحها، وأن الإنسان لا يُرى كاملًا إلا حين تتكسّر ظلاله على طاولة بلياردو تتحوّل إلى قَدَر. ويتشكّل عالمه من صمتٍ مُتقَن، وموسيقى خفيّة، ونظراتٍ تتردّد بين الغرور والانكسار، كأن الكاميرا لا تلتقط الوجوه بقدر ما تلتقط ما تحتها من خوفٍ ورغبة في الخلاص. ويتقدّم “فاست إيدي” داخل هذا العالم كمَن يطارد ذاته قبل أن يطارد الخصوم، شاعرًا بأن الهزيمة الحقيقية هي أن يبقى غير مرئي. ولعل أكثر ما يكشف روحه تلك العبارة التي ينطق بها بيرت غوردون في الفيلم قائلًا: “لديك موهبة… لكن ليس لديك شخصية”. وهي عبارة تشقّ المسافة بين الحلم والسقوط، وتُلقي بالبطل في أسئلة لا تُطفَأ، لتجعل الفيلم رحلةً في جوهر الإنسان قبل أن يكون حكاية عن لعبة البلياردو.

رهانات الروح

يستهلّ فيلم The Hustler / “الهارب” (1961 / 134 دقيقة)، الذي أخرجه روبرت روسين وكتب سيناريوه روبرت روسين وسيدني كارول، وتولّى موسيقاه كينيون هوبكنز، حضوره في تاريخ السينما الأمريكية بجرأة تنتمي إلى مطلع الستينيات، حين كانت السينما تعيد التفكير في البطل، وفي الأخلاق، وفي معنى النجاح ذاته. وينتمي الفيلم إلى دراما نفسية اجتماعية تتقاطع مع أفلام الرياضة، لكنّه يعبرها نحو منطقة أكثر عمقًا تتناول هشاشة الإنسان حين يواجه ذاته لا خصومه. وتنبثق حكايته من عالم البلياردو المحترف في الشوارع والنوادي، غير أنّه يوسّع أفقه ليصبح مرآة لصراع الهوية والكرامة، ولمعضلة الطموح حين يتحوّل إلى جرح.

وتدور القصة حول “فاست إيدي فيلسون” (بول نيومان)، لاعب بلياردو شاب يملك موهبة استثنائية، لكنّه يعيش على هامش المجتمع متكئًا على غروره وحسّه المغامر. ويبدأ الفيلم حين يسعى إيدي لمواجهة أسطورة البلياردو مينيسوتا فاتس، في محاولة لإثبات أنه الأفضل. وتتقدّم الأحداث عبر سلسلة من الهزائم والانكسارات، ليكتشف إيدي أنّ معركته ليست مع خصم على الطاولة، بل مع ذاته الممزقة بين الموهبة والطموح والانسحاب المؤلم نحو الندم. ومن هنا يتشكّل الفيلم على هيئة رحلة وجودية أكثر منها منافسة رياضية.

وتنهض الحكاية على إشكاليات تتجاوز ما هو رياضي، إذ يكشف الفيلم أزمة الرجولة في المجتمع الأمريكي بعد الحرب، حين تتصادم صورة البطل القوي مع هشاشة الداخل. ويبرز ذلك في جملة شهيرة ينطق بها بيرت غوردون، مدير المواهب القاسي الذي يراقب إيدي محاولًا تشكيله وفق منطقه النفعي: “لديك موهبة يا ولد، لكن يجب أن تكون لديك شخصية”. وتكشف هذه العبارة عن إحدى أهم أطروحات الفيلم: أن النجاح الخارجي يظلّ هشًا إذا لم ينشأ من صلابة داخلية، وأن الطريق نحو القوة ليس مهارة اليد، وإنما نضج الروح.

وتظهر خلفية الفيلم الثقافية والاجتماعية من خلال تمثيله لأمريكا الستينيات من القرن العشرين، حيث تتصارع الطبقات الدنيا مع الحلم الأمريكي الذي يَعِد الكثير، لكنّه لا يمنح سوى للقادرين على الصمود داخل لعبة قاسية. ويقدّم الفيلم مقاربة للهوية الفردية في زمن صاخب بالتغيّرات، متسائلًا عن موقع الإنسان بين السوق والمجتمع، وعن الكيفية التي تُختزل فيها القيمة الإنسانية في مهارة أو نتيجة. ويتجلى ذلك عبر علاقة إيدي بسارة باكارد (بايبر لوري)، المرأة الهشة التي تعيش عزلة وجودية، وتقول له في أحد مشاهدها البارزة: “أنا مُقعدة يا إيدي”. فيرد عليها لاحقًا بجملة تختصر عمق جراحه: “الكدمات التي لدي… أنا الذي فعلتها”. ويحوّل الفيلم هذه العلاقة إلى محور يفضح هشاشة الثقة بالنفس، ويعرّي الألم الناتج عن الشعور الدائم بعدم الكفاية.

في معنى ترويض الموهبة

تتخذ البنية السردية للفيلم شكل رحلة سقوط ونهوض، معتمدة على إيقاع داخلي لا يتسرّع في كشف الصراع وإنما يتيح له أن يتخمّر في نظرات الشخصيات وسكوتها. وتقوم الحبكة على توازٍ بين مسارين: مسار الطاولة ومسار الروح. ومع كل مباراة يخوضها إيدي، يزداد وضوح تشابه اللعبة مع الحياة. وتتماسك السردية عبر لغة بصرية تعتمد على الظلال والمساحات الفارغة، ما يجعل المكان نفسه شريكًا في تشكيل المعنى. ويتقاطع ذلك مع هوية خطابية تمزج بين الواقعية القاسية والتأمل الهادئ، لتعلن أن البطولة ليست إنجازًا وإنما اختبارًا أخلاقيًا.

وتتسم الهوية الجمالية للفيلم بأناقة الأبيض والأسود الذي يعمّق الإحساس بالعزلة. وتتحرك الكاميرا ببطء حول الطاولة، وتلاحق كرة البلياردو كأنها تتبع خيط القدر، بينما يضبط موسيقى كينيون هوبكنز الإيقاع الداخلي لرحلة تتأرجح بين التوتر والسكينة. وتكثّف الصورة تمزّق البطل، إذ يظهر إيدي غالبًا محاصرًا بين الجدران أو في زوايا ضيقة بما يعكس ضيق روحه. وتستدعي هذه الجمالية تأثيرات الفيلم “نوار” من حيث الإضاءة والظلال، لكنها تتجاوزها نحو شعرية درامية تعطي المكان طابعًا وجوديًا.

ويعالج الفيلم أسئلة فلسفية تتعلق بإرادة الإنسان وقدرته على ترويض موهبته بدل أن يصبح عبدًا لها. ويتساءل عن معنى الانتصار: هل يتحقق حين نهزم الخصم أم حين نتصالح مع أنفسنا؟ ويؤكد عبر مسار إيدي أن الحرية الحقيقية لا تظهر في اللحظة التي يربح فيها مباراة، وإنما في لحظة اكتشافه أنه لا يحتاج لإثبات أي شيء لأي أحد. وهذا ما يتجسد في عبارته حين يستعيد ثقته بنفسه في النهاية: “أنا الأهم… حتى لو هَزَمتني”. وهي جملة تكشف انتقاله من غرور فارغ إلى معرفة أعمق بذاته.

ويكرر الفيلم تأكيده على أن الهوية لا تُصنع من نتائج المباريات، وإنما من علاقة الإنسان بمعناه الداخلي، ومن قدرته على مواجهة الخوف والضعف، ومن وعيه بأن الحياة ليست طاولة بلياردو تُعاد فيها الكرة كل مرة، بل سلسلة من الخيارات التي تُكسب أو تُفقد الروح شيئًا من حقيقتها. ومع انقشاع الألم، يكتشف إيدي أنّ خساراته كانت تعيد تشكيله، وأن طموحه لم يكن يحتاج إلى الانتصار وإنما إلى الشجاعة.

وهكذا يستقر فيلم The Hustler في ذاكرة السينما كعمل يتجاوز الرياضة نحو الفلسفة، ويحوّل لعبة البلياردو إلى استعارة للبحث عن الذات. ويظلّ الفيلم شاهدًا على مرحلة مفصلية في السينما الأمريكية، وشاهدًا على ولادة بول نيومان ممثلًا يتقن التنقل بين الجاذبية والشجن، ليقدّم صورة نادرة لبطل مكسور يتعلم أخيرًا كيف يقف على قدميه.

مرايا الجرح

ينبثق البطل في فيلم “الهارب” بوصفه كائنًا يتشكّل من توتّر داخلي لا يهدأ، ويتحرّك في فضاء قَلِق يختبر هشاشته قبل أن يختبر قوته. ويبدأ إيدي فيلسون رحلته مدفوعًا بإيمان غير مكتمل بموهبته، وإحساس معقّد بأن العالم لا يعترف بقيمته إلا إذا هزم الجميع على الطاولة. وتتجلّى رؤيته للعالم منذ اللحظة الأولى رؤيةً تنافسية حادّة، إذ يعلن في مواجهته الأولى مع مينيسوتا فاتس الجملة التي تختصر غروره: “أنا الأفضل الذي رأيته في حياتك”، وبذلك يضع نفسه في موقع المحارب الذي لا يرى حوله إلا ساحات اختبار.

وتتشكل حياة البطل من ثنائية الموهبة والفراغ، إذ يحمل إيدي موهبة نادرة، لكنه لا يحمل المعايير الأخلاقية التي تحميه من ذاته. وتؤكد شخصية المدير القاسي بيرت غوردون (جورج سي. سكوت) هذه الفجوة حين يقول له، في واحدة من أشهر جمل الفيلم: “لديك موهبة، لكن تنقصك الشخصية”. وتولّد هذه العبارة جرحًا يلازم إيدي طوال الفيلم، لأنها تكشف أن مشكلته ليست التقنية أو المهارة، وإنما المعنى والاتزان. ولذلك يتحول الصراع إلى صراع هوية لا صراع مباراة، ويصبح إيدي مطالبًا ببناء ذاته من الداخل بدلًا من إثباتها في العلن.

عالم يعج بالكائنات المنكسرة

تتعمّق حساسية البطل حين يلتقي بسارة باكارد، التي تعيش عزلة وجودية أشبه بمرآة لجرحه. وتكشف سارة هشاشتها في اعترافها الحزين: “أنا مُقعدة يا إيدي”. فيستقبل العبارة كأنه يسمع الحقيقة التي يخشاها عن نفسه، إذ يشعر بأنه هو أيضًا مُقعد روحيًا. ومن خلال علاقتهما، يكتشف البطل أن العالم ليس ملعبًا فقط بقدر ما هو مكان مليء بالكائنات المنكسرة التي تطلب قليلًا من الرحمة. وتتخذ رؤيته للحياة منحى أكثر تعقيدًا، إذ يبدأ في إدراك أن الانتصار الحقيقي لا يتحقق على الطاولة وإنما في قدرتنا على حماية من نحبهم من الألم، وهو ما يفشل فيه في لحظاته الأولى.

وتتداخل.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من هسبريس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من هسبريس

منذ 3 ساعات
منذ 8 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ ساعتين
منذ 47 دقيقة
منذ 3 ساعات
هسبريس منذ 13 ساعة
هسبريس منذ 10 ساعات
آش نيوز منذ 13 ساعة
هسبريس منذ 7 ساعات
هسبريس منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 5 ساعات
Le12.ma منذ 9 ساعات
صحيفة الأسبوع الصحفي منذ 10 ساعات