الرموز والطقوس في الرياضة: قراءة في الدلالة السياسية والوجدانية لحفل افتتاح الكان

لا يختلف إثنان في أن المغرب نجح، من خلال حفل افتتاح النسخة الخامسة والثلاثين لكأس إفريقيا للأمم بالرباط، في تقديم لحظة كثيفة الرمزية، متجاوزًا منطق التنظيم التقني إلى بناء مشهد سياسي - رمزي مكتمل الأركان.

لقد كان الافتتاح فعلًا دلاليًا بامتياز، تُقرأ عناصره ضمن ما يسميه علم السياسة بـالطقوس العمومية التي تؤدي وظيفة تثبيت المعنى، وإعادة إنتاج الشرعية، وتجديد العلاقة بين السلطة والمجتمع في فضاء جماهيري مفتوح.

تتضاعف قوة هذه اللحظة حين يُسند الإشراف على الإفتتاح إلى ولي العهد الأمير مولاي الحسن، مرفوقًا برئيس دولة جزر القمر -الخصم في المباراة الافتتاحية - وبحضور رئيسي الفيفا والكاف بالإضافة إلى المسؤولين المغاربة.

هنا، لا يعود الحضور مجرد بروتوكول، بل يتحول إلى ترتيب رمزي محسوب، تتقاطع فيه الدبلوماسية الرياضية مع تمثلات السيادة والضيافة والاعتراف المتبادل. فإسناد لحظة الانطلاق الرسمية لولي العهد يستبطن استمرارية تقليد مغربي راسخ، دأبت فيه المؤسسة الملكية على إضفاء الشرعية الرمزية على التظاهرات الكبرى، باعتبار الرياضة مجالًا من مجالات التعبير عن وحدة الأمة وحيويتها.

أما مشهد إعطاء الانطلاقة، فليس تفصيلًا عابرًا، بل هو فعل طقوسي له جذوره في الذاكرة سية المغربية، حيث تشكل الرمزية الملكية عنصرًا جامعًا بين الماضي والحاضر، بين الدولة الحديثة ورأسمالها التاريخي. وتزداد كثافة هذا المعنى حين تُقرأ كرة القدم، لا باعتبارها لعبة فقط، بل كقوة ناعمة راكم المغرب من خلالها حضورًا دوليًا، وزخمًا دبلوماسيًا، وإجماعًا شعبيًا نادرًا.

غير أن اللحظة الأكثر دلالة تجلت في تلك الصورة التي وثّقها الفيديو المتداول: تحية ولي العهد للجماهير وسط الملعب، تحت المطر، دون مظلة أو وقاية، في مشهد عفوي ظاهريًا، عميق المعنى سياسيًا. فطلبه الذكي الموجه لمرافقيه بالابتعاد، وهو يتقدم نحو الجماهير، ليس مجرد حركة جسدية، بل رسالة رمزية قوية تُجسد الرغبة في الالتحام المباشر، الوجداني والعاطفي، مع المواطنين. إنها لحظة تواصل بدون وسيط، تعيد إنتاج صورة الملكية بوصفها مؤسسة قريبة، حاضنة، ومتصلة بنبض المجتمع.

في علم السياسة الرمزي، تُعد هذه اللحظات ذات قيمة مضاعفة، لأنها تُبنى تلقائيًا، لكنها تُقرأ استراتيجيًا. فهي ترسّخ ما يمكن تسميته بـالشرعية العاطفية، التي لا تُفرض بالقانون ولا تُصاغ بالخطابات، بل تتجذر عبر الإحساس المشترك والانتماء والوفاء المتبادل. وهنا تتجلى الخصوصية المغربية: علاقة متينة بين الشعب ومؤسسة الحكم، لا تقوم فقط على التعاقد الدستوري، بل على رصيد تاريخي ووجداني متراكم.

إنها صورة تتفوق، في صدقها وقوتها، على كل ما يمكن أن تنتجه تقنيات الذكاء الاصطناعي أو برامج التلاعب البصري(الفوتو شوب)؛ لأنها نابعة من لحظة إنسانية حقيقية. ومن هنا، تكتسب هذه اللقطة بعدًا معياريًا أيضًا، إذ تضع المسؤولية الأخلاقية والسياسية أمام باقي الفاعلين العموميين: مسؤولية الإخلاص للمهام، والنزاهة في التدبير، والابتعاد عن منطق استغلال النفوذ وتضارب المصالح، وعن التبريرات السياسوية الضيقة التي تُسيء إلى صورة الدولة بدل أن تخدمها.

فالمغرب، وهو يراكم صورًا قوية من هذا النوع، لا تنقصه الشعارات ولا الإمكانات، بقدر ما يحتاج إلى نخبة عمومية تُجسد روح الوطنية الصادقة، وتواكب هذه اللحظات الرمزية بسلوك سياسي منسجم معها. وحدها هذه المعادلة بين الرمز والممارسة هي الكفيلة بأن تُحوّل الإبهار إلى نهضة، واللحظة إلى مسار، والصورة إلى مشروع وطني متكامل.


هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من جريدة كفى

منذ ساعتين
منذ ساعتين
منذ ساعتين
الآن
منذ ساعتين
منذ ساعتين
هسبريس منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 14 ساعة
هسبريس منذ 5 ساعات
هسبريس منذ ساعتين
وكالة الأنباء المغربية منذ 3 ساعات
وكالة الأنباء المغربية منذ 3 ساعات
هسبريس منذ 53 دقيقة
وكالة الأنباء المغربية منذ 4 ساعات