هناك رجال لا يمثّل رحيلهم نهاية ولاية بقدر ما يطوي صفحة دورة تاريخية كاملة. وعبد اللطيف الجواهري واحد من هؤلاء.
بعد أكثر من اثنين وعشرين عاماً على رأس بنك المغرب، وأكثر من نصف قرن في خدمة الدولة المغربية، و حسب مصادر إعلامية، يستعد لمغادرة منصبه كوالي للبنك المركزي مع نهاية هذه السنة، ما لم يقرر مجلس بنك المغرب تمديد ولايته، حتى وإن كانت اليقينيات في المغرب كثيراً ما تبقى غير يقينية
برحيله يغلق قوسٌ طويل من الصرامة والإستقرار والتقشّف المؤسسي، في عالم اقتصادي بات متوتراً، صاخباً، وغالباً ما يفتقر إلى الحذر.
قد يُحاكم عبد اللطيف الجواهري بقسوة. قد يُؤخذ عليه تشدده، ونبرته الحادة، وتحذيراته المتكررة، وهوسه بالتوازنات، ورفضه العنيد للانجرار وراء السهولة.
غير أن التاريخ قد يكون أعدل. فالجواهري لم يسعَ يوماً إلى أن يكون محبوباً، بل اختار أن يكون نافعاً. وفي بلد يُخلَط فيه كثيراً بين المنفعة العامة والتملّق، يبدو هذا الاختيار ضرباً من البطولة الصامتة.
وقد أُطلق عليه لقبٌ دالّ: «الجدّ القنّاص». تعبير يقول الكثير. يقول العمر، والخبرة، وربما الإرهاق أيضاً، لكنه قبل كل شيء يقول الصراحة الفجّة. صراحةُ والي بنك مركزي لم يتردد في انتقاد الحكومات المتعاقبة وجهاً لوجه بسبب تراخيها المالي، وقصر نظرها، ونزعتها المزمنة إلى إنفاق اليوم ما ستدفع ثمنه غداً.
في نظام سياسي اعتاد العبارات الحذرة، كانت هذه الكلمة مزعجة. تُربك، وتُحرج، وتهبط كرصاصة طائشة وسط خطابات مُعلّبة.
ولا بد من فهم منبت هذه القسوة. فالجواهري رجل وسمته سنوات الثمانينيات بكيٍّ لا يُمحى. لقد رأى المغرب وهو يتمايل. رأى دولةً مختنقة بالديون، مُهانة بالوصاية المالية، مُنهكة بالجفاف . هذا الجرح لم يغادر الجواهري قط، وقد صاغ مجمل رؤيته للاقتصاد. بالنسبة إليه، لا تمثّل اللامسؤولية المالية خطأً تقنياً، بل خطيئة سياسية وأخلاقية.
ولم تكن هذه الصراحة لا وضعيةً مُفتعلة ولا تزيّناً إعلامياً. كانت حصيلة مسارٍ تَشكّل في أقسى مراحل التاريخ الاقتصادي للبلاد. الجواهري رجل أزمات. دخل بنك المغرب في سن مبكرة، وتعلّم المهنة من الداخل، في مغربٍ هشّ، مرتهن لمواسمه الزراعية، ومكشوف للصدمات الخارجية. وحين تولّى وزارة المالية في الثمانينيات، واجه إحدى أحلك الفترات: جفافاً قاسياً، وحرب الصحراء، ومديونية ثقيلة، وعجوزات منفلتة، وبرنامج التقويم الهيكلي المفروض تحت ضغط المانحين الدوليين.
وقد تركت هذه التجربة أثراً عميقاً فيه، وصاغت رؤيته شبه الهوسية للتوازنات الماكرو-اقتصادية. فالأخطاء المالية، في نظر الجواهري، ليست مجردة أبداً: ثمنها تضخّم، وبطالة، وفقدان سيادة، وإهانات صامتة. وهذا ما لم ينسه يوماً.
وعندما عاد سنة 2003 إلى رأس بنك المغرب، لم يعد مجرد تقني. صار حارساً. حارساً للعملة، ولكن أيضاً، على نحوٍ ما، حارساً للعقل الإقتصادي. وسرعان ما تحوّلت مداخلاته السنوية، ولا سيما خلال اجتماعات السياسة النقدية أو بمناسبة تقارير البنك المركزي، إلى محطات مُترقَّبة بقدر من القلق. لم تكن عروضاً تكنوقراطية بقدر ما كانت تنبيهات صارمة. كان يُشرّح بلا مجاملة السياسات العمومية، ويكشف التناقضات، ويحذّر من الإنزلاقات، ويذكّر بالثوابت التي يفضّل كثيرون تجاهلها.
وعلى رأس بنك المغرب، تصرّف كحارس. لا كاستراتيجي متألّق. ولا كمُصلحٍ استعراضي. حارس. حارسٌ للعملة، وحارسٌ للنظام البنكي، وحارسٌ لفكرة معيّنة عن الدولة. يدير أموال الدولة بعقلية ربّ الأسرة الحريص، كما هو
في كل عام كانت كلماته تُنتظر بشيء من التوجّس. كانت أشبه بتقريعٍ للنفس أكثر منها بعرضٍ تقني. يندّد فيها، من دون مواربة، بالميزانيات غير الواقعية، والوعود الاجتماعية بلا تمويل، والسياسات المرتجلة، والإصلاحات المُعلنة ثم المُهمَلة.
وهكذا أصبح، تقريباً رغما عنه، سلطةً مضادّة. حقيقية. لا مؤسسية بالمعنى الدستوري، بل واقعية في الأثر.
قال الجواهري مراراً بصوتٍ عالٍ ما كان كثيرون يعرفونه همساً: إن الدولة لا تستطيع تمويل كل شيء، وإن النمو لا يُفرَض بقرارات الدعم، وإن الدَّين مُخدّر لطيف على المدى القصير ومدمّر على المدى الطويل. وذكّر بلا كلل بأن البنك المركزي ليس موجوداً لإصلاح أخطاء الحكومات، ولا أقلّ من ذلك لإخفائها.
يمكن أن نأخذ عليه نقص التعاطف الاجتماعي. ويمكن أن نلومه على تقليله أحياناً من تقدير معاناة شرائح واسعة من السكان. ويمكن أن ننتقد لديه رؤية «مركزية مصرفية» باردة وبعيدة. وهذه انتقادات ليست بلا أساس. لكنها تطرح سؤالاً جوهرياً:
ماذا ننتظر فعلاً من والي بنك مركزي؟
أن يُواسي، أم أن يحمي؟
أن يواكب الأوهام، أم أن يمنع الكوارث؟
هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى
