تنبثق “سينما الفيضانات” بوصفها اختبارًا حادًا للإنسان وهو يُنزَع من أوهام السيطرة ويُلْقَى في حضن قوة لا تفاوض. وتكشف هذه السينما هشاشة المدينة الحديثة، وتعرّي تواطؤ التقدم مع الغفلة، وتحوّل الماء من عنصر حياة إلى محكمة أخلاقية. وتطرح أسئلتها الحارقة بلا رحمة: ماذا يبقى من الهوية حين يغرق المكان؟ ومن ينجو حين تتساوى القوانين تحت السطح؟ هل النجاة عدالة أم مصادفة؟ وكيف تُقاس الكرامة عندما يصبح القرار ثانيةً واحدة بين حياة وحياة؟ وتُمسك هذه السينما بالوجدان عبر صورٍ تصفع الذاكرة، وتحبس الأنفاس؛ لأن الخطر ليس في الفيضان وحده، وإنما فيما يكشفه من صدوع داخلنا. وتقول ماريا في فيلم The Impossible / “المستحيل” (2012)، بطولة ناعومي واتس، وإخراج خوان أنطونيو بايونا: “حين ابتلعني الماء، فهمت أن الخوف ليس أن أموت، بل أن أنجو بلا معنى”. وتعلن بهذه العبارة سينما الفيضانات وعدها القاسي: مواجهة الذات عاريةً أمام الطبيعة.
الماء كذاكرة وكسؤال أخلاقي
تنشأ سينما الفيضانات بوصفها أحد أكثر أنماط السينما كثافةً رمزية، إذ تحوِّل الكارثة الطبيعية إلى اختبار وجودي، وتُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والطبيعة والمدينة والذاكرة. وتنطلق هذه السينما من الماء بوصفه قوة مزدوجة، مانحة للحياة من جهة، ومدمِّرة لها من جهة أخرى، فتجعل من الفيضان استعارةً لانهيار النظام، وامتحانًا للكرامة، وفضاءً لسؤال البقاء والمعنى.
وتتجلى ماهية هذه السينما في قدرتها على الجمع بين spectacle / العرض البصري المهيب والتأمل الفلسفي العميق. وتُظهر نعيمها في اللقطات الواسعة التي يبتلع فيها الماء الشوارع والبيوت، وتُظهر قسوتها في التفاصيل الصغيرة: يدٍ ترتجف، أو صورة عائلية تطفو فوق السطح. وتُراهن هذه السينما على التوتر بين الصمت والضجيج، بين هدير الماء وارتباك الإنسان، فتجعل المشاهد شريكًا في الفقد لا متفرجًا عليه.
وتتمظهر تجليات سينما الفيضانات في أشكال متعددة، إذ تتقاطع مع سينما الكوارث، وتتماهى أحيانًا مع السينما الاجتماعية أو السياسية. وتُحيل مظاهرها البصرية إلى مدن غارقة، وجسور منهارة، ووجوه تبحث عن خلاص، بينما تُحيل مظاهرها السردية إلى تفكك العائلة، وانهيار السلطة، وانكشاف الهشاشة الإنسانية. وتُعلن هذه السينما أن الكارثة ليست في الماء وحده، وإنما في ما يكشفه الماء.
وتُطرح قضاياها الكبرى حول مسؤولية الإنسان عن الخراب، وحول العدالة الاجتماعية في لحظة الكارثة، وحول معنى النجاة ومن يستحقها. وتُسائل هذه الأفلام السلطة التي تتأخر، والعلم الذي يخطئ، والإنسان الذي يظن نفسه مركز الكون. وتُردد إحدى الشخصيات في فيلم “فيضان” قولها: “لم يغرقنا الماء وحده، أغرقتنا ثقتنا بأننا أقوى منه”.
الماء لغة والسينما اختبار
تتأسس أطروحات هذه السينما على فكرة أن الطبيعة ليست خلفية محايدة، وإنما فاعلًا دراميًا. وتُجادل بأن المدينة الحديثة، رغم هندستها، تبقى كائنًا هشًا. وتُعيد التفكير في مفهوم التقدم، وتربطه بثمن بيئي وأخلاقي. وتُعلن أفكارها أن الإنسان حين ينسى حدوده، تُذكِّره الطبيعة بها بقسوة.
وتتشكل قصص سينما الفيضانات حول لحظة الانكسار الأولى، ثم حول محاولات النجاة، ثم حول ما بعد الانحسار. وتُروى حكايات عائلات تتفكك ثم تعيد تعريف ذاتها، وأفراد يُجبرون على اتخاذ قرارات قصوى. وتُبنى سردياتها غالبًا على زمن مكثف، ساعات أو أيام، حيث يتعرّى الداخل الإنساني بسرعة. تقول إحدى البطلات وهي تحمل طفلها وسط الماء: “كل ما كنت أؤجله، صار الآن بلا معنى، لم يبقَ سوى أن أكون هنا”.
وتتجذر خلفياتها المجتمعية في الخوف من فقدان البيت، وفي ذاكرة المدن المهددة، وفي وعي طبقي يظهر حين تغرق الأحياء الفقيرة أولًا. وتتصل خلفياتها الفنية بتقنيات المؤثرات البصرية، وبالواقعية التسجيلية أحيانًا، بينما تتغذى خلفياتها الفلسفية من أسئلة المصير والعبث والعودة القسرية إلى الطبيعة الأم. وتتقاطع هذه الرؤية مع السينما الإيطالية التي خبرت علاقة خاصة مع الماء، من فينيسيا الغارقة إلى الجنوب المهدد.
وتتضح بنيتها السردية في اعتمادها على تصاعد متوتر، وبطل جماعي أحيانًا بدل الفرد، وعلى خطاب بصري يجعل الماء لغة. وتتحدد هويتها الفيلمية في كونها سينما اختبار، لا تقدم أجوبة نهائية، بقدر ما تترك المتلقي أمام سؤال مفتوح: ماذا يبقى حين ينسحب الماء؟
وتتجسد هذه السينما في أفلام بارزة شكّلت وعيها، مثل The Impossible – / “المستحيل” (2012) الذي حوّل تسونامي إلى ملحمة إنسانية، وFlood – / “فيضان” (2007) الذي كشف هشاشة المدن الأوروبية، وHard Rain – / “أمطار غزيرة” (1998) الذي مزج الكارثة بالجريمة، وThe Day After Tomorrow / “اليوم التالي” (2004) الذي قدّم الفيضان بوصفه إنذارًا كونيًا، وPoseidon / “بوسيدون” (2006) الذي أعاد صياغة السفينة الغارقة، وSan Andreas – / “سان أندرياس” (2015) حيث تتقاطع الزلازل مع المياه، وCrawl – / “الزحف” (2019) الذي جعل الفيضان مسرحًا للرعب، وBeasts of the Southern Wild – / “وحوش البرية الجنوبية” (2012) الذي قدّم رؤية شعرية لطفلة تواجه الماء، وThe Wave – / “الموجة” (2015) الذي ربط الفيضان بالجبل، وGeostorm – / “عاصفة جيولوجية” (2017) الذي ضخّم الكارثة إلى مستوى كوكبي، وIl Posto delle Fragole – / “مكان الفراولة” (1998) في نموذج إيطالي يستحضر الماء كذاكرة، وVenezia sommersa – / “فينيسيا الغارقة” (2001) الذي استعاد خوف المدينة من مصيرها.
وتُختزل خلاصة سينما الفيضانات في كونها سينما مواجهة، تُجبر الإنسان على النظر في مرآة ضعفه، وتدعوه إلى إعادة تعريف علاقته بالعالم. وتُنهي هذه السينما حكاياتها دون يقين، لكنها تترك أثرًا أخلاقيًا عميقًا. وتُهمس إحدى الشخصيات في لقطة أخيرة قائلة: “حين انسحب الماء، لم أعد الشخص نفسه، ترك في داخلي فيضانًا آخر لن يهدأ”.
ثنائية الغرق والنجاة
تنبثق المشاهد في سينما الفيضانات من تزاوج الصورة بالكلمة، حيث لا يُقال الحوار لتفسير الحدث وإنما لتكثيفه. وتتكلم الشخصيات في لحظات الغرق والنجاة بوعيٍ وجودي مفاجئ، كأن الماء يجرد اللغة من الزوائد ويُبقيها في حدّها الأخلاقي الأقصى. وتتشكل هذه السينما بوصفها صدى داخليًا للفيلم كله، وتتحول إلى مفاتيح قراءة للمشهد والكارثة معًا.
وتُفتتح هذه المشاهد عادةً بلحظة الصدمة الأولى، حين يقتحم الماء الحياة اليومية. ويُجسّد فيلم “المستحيل” (2012) هذه اللحظة عبر شخصية ماريا التي تؤديها ناعومي واتس، إذ تقول وهي تُسحب مع التيار: “كنت أظن أن الخوف صوت مرتفع، لكنه كان صمتًا يملأ صدري”. وتُرافق هذه العبارة صورة الجسد الملقى بين الحطام، لتجعل الاقتباس امتدادًا بصريًا للغرق لا تعليقًا عليه.
وتتجسد مشاهد المدينة الغارقة في هذه السينما بتحوّل المكان إلى بطل منكسر. في فيلم “فيضان” (2007)، يقول روب موريسون، أحد الشخصيات المحورية: “لم نُهزم لأن الماء دخل المدينة، بل لأننا صدّقنا أنها محصّنة”. ويحمل هذا التأويل المدينة مسؤولية وهمها، ويحوّل المشهد إلى نقد حضاري لا مجرد كارثة طبيعية.
وتتقدم البطولة الملتبسة في مشاهد السباحة ضد.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من هسبريس
