البركة الشاملة ومصانع الطمأنينة .. هل يتحول “الشيخ” إلى مدير علامة تجارية؟

هل كانت الزوايا يومًا بيوتًا للرّوح أم خطوط إنتاج لطمأنينة معلّبة بتاريخ انتهاء صلاحية رُوحي؟ متى تحوّل الشيخ من دليل على الطريق إلى مدير علامة تجارية مسجَّلة باسم “البركة الشاملة”؟

وأيّ لحظة بالضبط قرر فيها الإنسان أن يسلّم قلقه في الشباك، مقابل رقمٍ في دفتر النّيات وختمٍ غير مرئي على جبينه؟ هل نحن حقًّا نبحث عن معنى، أم عن خدمة ما بعد البيع لوهم قديم اسمه اليقين؟

ثم ما الفرق بين مُريدٍ يجلس عند عتبة زاوية، ومستخدمٍ يفتح تطبيق “الصفاء الداخلي” قبل النوم؟

أليست الحكاية نفسها، تتنكر فقط في أزياء مختلفة، بينما السؤال المؤجَّل يبقى واحدًا:

من الذي يصنع الطمأنينة فعلاً… الشيخ، المؤسسة، أم خوفنا الذي لا يريد أن يتقاعد؟

مَعاملٌ لإنتاج الطمأنينة…

في زمنٍ ازدادت فيه سرعة كل شيء، من دوران الكواكب إلى دوران الأسْعار، ظهرت الزوايا، كما يُقال، مثل “جزر روحية” تَعِدُ بأن تُبطّئ الزمن قليلًا.

لكن ما إن اقتربتُ من إحداها، حتى شعرتُ أنّ الزمن لم يبطؤ قط. فالشيخ، ذلك الكائن الأسطوري الذي لا يشيخ، يجلس في صدر المجلس. يتحدث بطمأنينة من يعرفُ الحقيقة كلها، أو على الأقل يتصرّف كمن كلّفته السماء بإدارة فرع محلّي للحكمة القديمة؛ حوله مريدون يشبهون حلقات ضوءٍ في لوحةٍ قديمة، لكن كل دائرة تضيف قليلاً من الظلال بدلاً من النّور.

ومع ذلك، لا بدّ من الاعتراف: ما أعظم قدرة هؤلاء المشايخ على الجمع بين النقيضين! فهم يعظون الناس عن التواضع بينما تتدلى على الجدار خلفهم صورهم المكبّرة، في وضعيات لا يجرؤ عليها الملوك.

يخبرونك أنّ الدنيا لا تساوي شيئًا، ثم يُذكّرونك، بلطفٍ حكيم، أن تُدخِل يدكَ في “صندوق النيات”، لأنهم يعرفون أن جيوب الناس طريق مختصر إلى السماء.

والزوايا نفسها…! يُقال إنها فضاءات للرّوح، لكنها في الحقيقة تعمل مثل شركات ناشئة؛ لديها موارد بشرية (المريدون)، قسم تسويق (البركة)، استراتيجية بعيدة المدى (الطاعة)، وخدمة ما بعد البيع (الزيارة السنوية).

الفرق الوحيد هو أن الأرباح هنا معنوية… أو هكذا يُقال. ليست السخريةُ موجّهةً إلى المشايخِ بقدرِ ما هي موجّهةٌ إلينا: إلى هذا الاندفاعِ الأعمى وراء أيِّ إشارةٍ في الهواء، على أنّها وعدٌ بمعرفةِ ما لا يُعرف.

نحن الذين نبحث عن حكمة جاهزة في زمن يتطلّب أن نصنع حكمتنا بأنفسنا. نحنُ الذين نستعيرُ تعريفَنا من الزوايا، ثمّ نتهرّبُ من السؤالِ الأساس: ماذا نريد أن نصنع من أنفسِنا؟

ربما يكون الشيخ، في نهاية المطاف، مرآة. لا تعكس ملامح وجهه، وإنما تعكس هشاشتنا الداخلية، رغبتنا في اليقين، في الطمأنينة، في أن نُسلّم العقل قليلاً ليستريح من صخب العصر. وعلى هذا، لا تُمنح القداسة لمن يصعد المنبر، وإنما لمن يملك شجاعة أن ينظر إلى ذاته.

البركةُ عملةً قابلة للصّرف

حينَ تجاوزت عتبة الزّاوية أدركتُ أن للبركة نظامًا يشبه الاقتصاد العالمي. هناك سعر صرف يومي، يتغيّر حسب المزاج الروحي العام. بركةٌ خفيفة لمن يمرّ عابرًا، وبركةٌ متوسطة لمن ينحني قليلًا.

أما البركة الممتازة، فهي تلك التي تحتاج إلى “استشارة خاصة” مع الشيخ، وتلك لها ضريبة غير منصوص عليها في أي كتاب فقه، لكنها محفوظة في ذاكرة الصندوق الخشبي الصغير الذي لا يشيخ أبدًا. والمريدون… يا لهؤلاء المبدعين! لو اجتمعوا لكتبوا أطرف موسوعة في التفسير الموازي.

فإذا عطس الشيخ، قالوا: “إشارة”. وإذا صمت للحظة، قالوا: “كشْف”. وإذا أخطأ في حساب بسيط، قالوا: “تجلٍّ ما”. كأنهم لا يروْن العالم إلا من خلال فتحة القنديل المعلّق فوق رأسه، ذلك الذي يشتغل بالكهرباء، لكنه يصرّ على الادّعاء أنه “نورٌ ربّاني”.

الغريب أنّ الزوايا لا تحتاج إلى تحديثات أو إصلاحات. فهي تعمل بكفاءة منذ قرون، لأن الناس لا يأتون بحثًا عن الحقيقة، وإنما بحثًا عن قصة جاهزة تُريحهم من عناء التفكير. والشيخ، بحكمته البالغة، يعرف ذلك جيدًا.

لذلك يمنح الجميع ما يريدون: قليلًا من الغموض، قليلًا من الطمأنينة، كثيرًا من الطاعة، وجرعة خفيفة من الوعود طويلة الأمد؛ تلك الوعود التي تُسَلَّم عادةً لأحفاد الزبون، إن وُجِد.

وعلى الجدار كانت تستقرّ لوحةٌ قديمة لشيخٍ سابق. وبكل هدوءٍ، تبيّن لي أنها ليست مجرّد تذكارٍ يُعلَّق، إنها رسالةٌ مُحكمة التغليف: الشيوخ يتعاقبون، أمّا النظام فلا يبرح مكانه. كأنّ الزوايا تُدار بمنطقٍ واحد: البركة لا تفنى، ذلك أنها تنتقل من شيخٍ إلى شيخ. ويبقى المريد، ذلك الكائن الثابتُ والأكثر صلابةً في هذه السلسلة؛ الحلقة التي لا تتبدّل، مهما تبدّلت الأسماء.

لكن الأدهى من ذلك أنّ بعض الزوايا في بعض البلاد باتت تمتلك “قسم علاقات عامة” غير معلن. هناك من يروّج لها على أنه “فضاء للتنمية الروحية”، وهناك من يسوّقها باعتبارها بديلا للطبّ، وهناك من يتعامل معها باعتبارها منصة اجتماعية تُبرم فيها المصالح قبل أن تُقرأ فيها الأوْرَاد.

ومع كل هذا، يظلّ الشيخ مبتسمًا تلك الابتسامة التي تعبُر الزمن نفسه… ابتسامة من يعرف أنّ البشر، مهما تقدّموا، سيحتاجون دومًا إلى مكان يعلّقون عليه قلَقهم، مثلما يعلِّق الحاجّ إحْرامه قبل الشروع في المناسك.

وحين غادرتُ الزيارة، انكشف لي أن الزّاوية ليست مبنى فحسب، ولا شيخًا، ولا جماعة مُريدين؛ إنها حالةٌ ذهنية تُصنّع المعنى عندما يعجز الناس عن صناعته بأنفسهم. ومع أننا نرى كل ذلك بوضوح فإننا نعود في الأسبوع التالي، نحمل قلقنا ونقدّمه كما لو كان ملفًا يحتاج توقيعًا، راجين أن يطبع الشيخ عليه ختمًا: “طمأنينةٌ مُمْتدّة”.

الطقوس هي الطقوس

لم تكن الزوايا وحدها بارعةً في صناعة الطمأنينة. كنتُ أظنّ ذلك “اختراعًا محليًّا”، إلى أن اكتشفتُ أن البشرية، منذ بداياتها، لا تكفّ عن إتقان مهارة واحدة: تحويل الخوف إلى طقس، والجهل إلى مؤسسة، والصدفة إلى أصلٍ مُقدَّس.

في شرق آسيا، مثلًا، ستجد معابد تُشبه شركات البرمجيات الكبرى. لديها “إصدار سنوي” من البركة: نسخة 2025 تحتوي على حماية متقدمة ضدّ سوء الحظ، وتحديثات تمنع انهيار العلاقات، وإضافة جديدة اسمها “تقليل الغضب” لكنها، بحسب المستخدمين، لا تعمل بشكل جيد في ساعات الذّروة. ويقف المؤمنون في طوابير طويلة، يحملون بخورًا ويبحثون عن ملفّ تنصيبٍ للطمأنينة لا يتعارض مع مروّض الأرواح، الذي يبدو.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من هسبريس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من هسبريس

منذ 4 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 26 دقيقة
منذ 6 ساعات
منذ ساعتين
هسبريس منذ 5 ساعات
بلادنا 24 منذ 3 ساعات
Le12.ma منذ 18 ساعة
هسبريس منذ 17 ساعة
هسبريس منذ 16 ساعة
هسبريس منذ ساعة
هسبريس منذ 16 ساعة
وكالة الأنباء المغربية منذ ساعة