مُدُنٌ وأقَالِيم تحظى بعض أطرافها بالرَّفَاهِ المجالِيّ، وبثروة الجهة، أو المجلس والجماعة، وما للدولة فيها من ثِقْل في عمرانها، وفي اقتصادها، وفي مشاريعها، وفي مداخلها، وفي الاستثمارات، والإدارات، والصِّناعات التي تتركَّزُ فيها، وما فيها من شُغْلٍ، ومن وظائف، ومن حُضُور أمْنِي، واهتمام كبير ببنياتها التحتية، وبنظافتها، وبمدارسها ومعاهدها وجامعاتها، الخاصَّة منها، ما هو في يَدِ أصحاب السلطة والنُّفوذ المالي.
ومُدُنٌ وجهات، من يدخل إليها، وكأنَّه يعُود إلى الوراء، إلى ما قبل العمران والحضارة والتَّمَدُّن، العمران فيها هجينٌ، وهي ليست سوى بوادٍ، ما فيها من بنيات حديثة، لا شيء فيها يشي بوجود مُخَطَّط واضح في البناء والتَّعْمِير، أو في توزيع فضاءات المدينة، أو أنَّ المدينة لا وُجُود فيها لمجلس مُنْتَخَب، وحتَّى إذا وُجِدَ، فهي مدينة بدون مداخيل، ما يدخل إلى خزينتها هزيل، لا يكفي حتَّى في ميزانية النَّظَافة، أحرى أن نتكلم عن الطُّرُق، وعن البنيات التحتية، وعن الحدائق والمُتنزَّهَات، وعن المدارس والجامعات والمصحات والمستشفيات، وملاعب الرياضة، لا كُرة القدم وحدها التي ليست هي كُلّ الرياضة، ولا نظافة، والأمن فيها ضعيف، وغيرها من مظاهر تجعل هذه المُدُن بلا حياة، وبلا عمران، بل هي أمْيَل إلى الخراب، لا أحد يعتني بها أو يلتفت إليها، فقط، لأنَّها خارج مدار المُدُن الكبرى والسِّياحِيَّة، وخارج مدار المال والأعمال، والمنافسات الرياضية القارية، وهي المُدُن التي هاجر الشبان منها إلى غيرها من مُدُن المغرب، أو رَمَوْا بأنفسهم في البحر، طمعاً في الوُصول إلى الضِفَّة الأخرى من المُتوسِّط، طلباً للنَّجاة من الجحيم الذي لم يعُودوا يحتملونه في مُدُنٍ سُفْلَى، غارقة في الظُّلْمَة والاكْتِئاب، والعيش فيها قاسٍ، صَعْب، بالكاد يستطيع الإنسان احتمال بعض ما في جحيمها من جَمْر ورَماد.
العدالة المَجالية والدولة الاجتماعيَّة، هذه أكبر المُغالطات، والشِّعَارات التي تَمَّ ترويجُهَا، وكأنها عُملَة بدون صَرْفٍ، وبدون قيمة، عُمْلَة مَضْرُوبة، لا أحد يعرف ما تعنيه، في ظِلِّ واقع مُزْرٍ، فيه النَّاس طبقات، من منهم، بحسب «كوميديا العَدم»، في الجنة أو الفِرْدَوْس، ومَنْ منهم فِي المَحْشَر أو المَطْهَر، لا هُو هُنا ولا هُو هُناك، «امْلاوَط» كما نقُول في اللِّسَان العام، ومَنْ منهم في الجَحِيم، يعيشُهُ بِكُل جمره الحارق، ما إن تَخْمُد جَمْرَة، حتَّى تشتعل أخرى، إلى أنْ يذوب في رماد هذا الجَمْر الحَارِق.
هذا هو الواقع، بما نراه به، بل بما هو عليه، بدون رُتوشَاتٍ، أو زيادة، بل رُبهَما نكون نَقَصْنا منه بعض الأشياء.
ما كان من أمطار وفيضانات، وهو ما يحدث كُلَّما هبَّت الأمطار، عَرَّى كُلّ شيء، وبيَّن ما بين المُدن والجهات من فُرُوقات شاسِعَة وعظيمة، هي هُوَّة لا يمكن رَدْمُهَا، خُصوصاً في ظِلِّ ما يجري من بناء، وتشْييد، وإصلاح في المُدُن التي ستستقبل مسابقات الكان، وما سيكون بعده من مباريات كأس العالم.
أمَّا المُدُن والأحياء داخل المدن الراقية، التي هي هامش، وهي في الدَّرَك الأسفل من التَّرْتِيب الاجتماعي، والاقتصادي، والعمرانيّ، فلا أحد يسمع عنها، أو يراها، إلَّا حين تنهار، وتسقط بيوتها، أو يفيض فيها نَهْرٌ اسْتَيْقَظَ، فجأةً، لِيُوقِظَ الغافِلِين من نومهم، وإهمالهم، وصمتهم، وتغاضيهم، رغم أن البلاد واحِدَة، والمواطن واحِد، بنفس الحقوق، ونفس الواجبات، فأيّ عدالة اجتماعية، ومجالية هذه، وما الإجتماع، ومن هُم المجتمع، حينما نتكلَّم عن الدولة الإجتماعية!!؟
هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى
