دائما ما نتذكر أغنية الجندول بمجرد أن نزور إيطاليا ونزور مدينة البندقية التي تحلو الموت بعد رؤيتها كما يقول المثل الفرنسي voir Venise et mourir، ومن منا يراها ولا يتذكر الشاعر العربي علي محمود طه الذي خلدها برائعته الجندول .
والحقيقة أن قصة المدينة في حد ذاتها، وقصة إنشائها وقصص مهندسيها الكبار، وكذلك ما أحدثته زيارة علي محمود طه، ذلك الشاعر المترف، من إلهامه لقصيدة الجندول وما ترتب عن هذه القصيدة من حكايات كان أطرافها محمد عبد الوهاب وعميد الأدب العربي طه حسين، والشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، وكثير من مشاهير الأدب والفنون..
لذلك احتفظت مخيلتنا ليس فقط بالقصيدة، ولكن بقصة الحب التي نشأت في كرنفالها والكؤوس التي لعبت بالرؤوس وتقديمها من طرف تلك الحسناء ذهبية الشعر ذات الأعطاف البارزة، الشرقية السمات وهي تهدي في كؤوس زجاجية رقيقة خمرة الاحتفال بعدما ذوبت فيها عطرها، وبلغت نشوة الشاعر بعدما استبدت به الكؤوس المختلطة بالجمال إلى تذكر النيل والهرمان ويخاطبهما محمد عبد الوهاب بمقام الفالس الموسيقي، بعدما جسد رومانسية المشهد بالناهوند والبياتي في مقامات موسيقية عذبة.
ومعلوم أن الاسم العربي لمدينة Venise الإيطالية هو البندقية، وهو الاسم الأجمل والدال على المدينة أكثر من الأسماء الأخرى التي اشتهرت بها تاريخيا، خاصة في العصور الوسطى كجمهورية بحرية قوية، والاسم مشتق من لقب الدوقية الجميلة (Bonodocia) في الإيطالية القديمة، وقد حُرّف مع مرور الوقت ليصبح البندقية ، ومن ثم جاء اسم البندقية لازدهار صناعة السلاح بها، أما فينيسيا (Venice) فهي اللفظ الإيطالي للمدينة.
ونشأت البندقية تدريجيا من تجمعات سكانية هربوا من الغزوات البربرية في القرن الخامس إلى البحيرات الساحلية بحثا عن الأمان، فأسسوا مجتمعات على الجزر وبنوا مدينتهم فوق الماء باستخدام أساسات خشبية، وتطورت لتصبح جمهورية البندقية . تلك إذن، قصة إنشائها وتسميتها، فما بال قصتها مع طه حسين ومحمد عبد الوهاب، ذلك أنه في عز الحرب العالمية الثانية، نشرت في نهاية الثلاثينات قصيدة شاعرها المرهف علي محمود طه مع حسنائه في كرنفالها، فطلب منه محمد عبد الوهاب تلحينها وعند تسجليها شرف عميد الأدب العربي عميد الموسيقى العربية بالحضور، وما إن وصل محمد عبد الوهاب إلى مقطع: غير يوم لم يعد يذكره غيره.. يوم أن قابلته أول مرة فأنشد قابلته بوضع الفتحة عليها، فجزع طه حسين وتبدلت ملامحه واستدرك محمد عبد الوهاب وأعاد المقطع مرتين وصحح اللفظ، ووضع الضمّة على التاء بدلا من الفتحة، فانشرحت من جديد أسارير طه حسين.
أما الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، التي أرغمها والدها على السجن في البيت ومقاطعة الدراسة الابتدائية بعد أن لمح أحد التلاميذ يهديها وردة فقبلتها، وبعد أن أخرجها أخوها الشاعر إبراهيم طوقان من سجنها وشجعها على الشعر، فانظر ماذا قالت عن الجندول وصاحبه، وربما بلغ بها الإعجاب إلى الوقوع في حب الشاعر دون أن تراه والذي لم يكتب له الحياة: ((أثناء إقامتي في بيت أخي إبراهيم في القدس عام 1940، قرأت في جريدة الأهرام قصيدة لذلك الشاعر الذي ملأت قصيدته الجندول آنذاك آفاق الغناء العربي. أحببتُ القصيدة، وحفظتها عن ظهر قلب، ووجدتني أسيرة رغبة لا تقاوم في الكتابة إلى الشاعر للتعبير عن شدة إعجابي بتلك القصيدة الإنسانية المؤثرة.
لم أطلع إبراهيم على الرسالة، لسبب واحد، هو تجنب الشعور بالحرج والإحباط أمامه في حالة إهمال الشاعر الرد على رسالتي.
ثم فوجئت بما لم أتوقعه، كانت حفاوة الشاعر برسالتي كبيرة، وقد أتبع رده بنسخة من ديوانه ليالي الملاح التائه ، وغمر فرحي بكلمات الإهداء ليالي وأيامي. سُر إبراهيم بكل هذا، وطلب مني كتابة مراجعة لديوان ليالي الملاح التائه لأذيعها من الإذاعة الفلسطينية بالقدس، فكتبت المراجعة بحماس لا حدود له، وأرسلت نسخة منها إلى الشاعر مع الإشارة إلى تاريخ إذاعتها.
بعد عودتي إلى نابلس، إثر هجرة إبراهيم إلى بغداد، تلقيت أمرا من بعض أرباب العائلة بقطع أواصر تلك المراسلات الأدبية مع الشاعر المصري رغما عن خلوها من كل شائبة)).
وأريد لتلك العلاقة بين الشاعر والشاعرة أن تنقطع إلى أن تذكرها سنين طويلة بعد ذلك في مذكراتها، وبذلك كانت القصيدة ورقتها مصيدة قلوب كثيرات من المعجبات والمعجبين، وملأت الدنيا وشغلت الناس، وكيف لا يمكن أن تكون كذلك وكل بيت فيها يجسد رومانسية دقيقة ورقيقة: أين من عيني هاتيك المجال يا عروس البحر يا حلم الخيـال.. أين عشاقك سمار الليالي أين من واديك يا مهد الجمال إلى أخر الأغنية.
فأي قلب يصمد أمام هذه الرقة والمعاني حتى لو كان قلب فدوى طوقان وطه حسين !؟
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الأسبوع الصحفي

