بقلم: عبدالله مشنون (.)
في ظل التحولات السياسية والدبلوماسية التي تعرفها قضية الصحراء المغربية، يبرز مقترح الحكم الذاتي كأحد أكثر الحلول واقعية وجدية، جامعًا بين متطلبات السيادة الوطنية وحق السكان المحليين في تدبير شؤونهم في إطار الدولة المغربية الموحدة. ولم يعد هذا المقترح مجرد مبادرة سياسية، بل أصبح اليوم مشروعًا وطنيًا متكاملًا يهدف إلى تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة، وتعزيز المشاركة المواطِنة في الأقاليم الجنوبية للمملكة.
أولًا: السياق الوطني والدولي للمبادرة
انطلق المغرب في مقاربته لقضية الصحراء من رؤية واضحة، تستند إلى الشرعية التاريخية، وإلى المرجعيات الوطنية والدولية، مقدِّمًا مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي نهائي في إطار السيادة المغربية الكاملة. وقد حظيت هذه المبادرة بدعم متزايد داخل المنتظم الدولي، باعتبارها مقترحًا جديًا وذا مصداقية، ينسجم مع مبادئ القانون الدولي، ويحترم حقوق الإنسان، ويُجنب المنطقة مخاطر عدم الاستقرار.
ويقوم هذا التصور على معادلة دقيقة توازن بين الحفاظ على وحدة التراب الوطني، وتمكين السكان من المشاركة الفعلية في تدبير شؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما يعزز الاستقرار ويخلق دينامية تنموية حقيقية في الأقاليم الجنوبية.
ثانيًا: الأبعاد السياسية والمؤسساتية للحكم الذاتي
لا يندرج الحكم الذاتي بالصحراء المغربية في إطار الطروحات النظرية، بل يقوم على تصور مؤسساتي واضح المعالم. فهو يقوم على إحداث برلمان جهوي منتخب ديمقراطيًا، وحكومة جهوية تتولى تنفيذ السياسات المحلية، وإدارات جهوية تضطلع بتدبير الشؤون اليومية للسكان.
ويضمن التوزيع المتوازن للصلاحيات بين السلطة المركزية والجهة الحفاظ على الاختصاصات السيادية الحصرية للدولة، مثل الدفاع الوطني، والسياسة الخارجية، والموارد الاستراتيجية، في مقابل صلاحيات واسعة للجهة في مجالات التنمية المحلية. ويُبرز هذا النموذج قدرة المغرب على بناء صيغة متقدمة من اللامركزية، تجمع بين وحدة الدولة ونجاعة التدبير الترابي.
وفي هذا الإطار، تشكل الرؤية الاستراتيجية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله الركيزة الأساسية لهذا المشروع. فقد اتسمت التوجيهات الملكية بالحكمة والاستشراف، مع الحرص على ترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، والمشاركة السياسية، والتنمية الشاملة. كما أن الاهتمام الملكي المتواصل بتأهيل البنيات التحتية، وتشجيع الاستثمار، وإشراك المجتمع المدني، يؤكد أن الحكم الذاتي ليس مجرد إطار إداري، بل مشروع سياسي وتنموي متكامل.
ثالثًا: التنمية الاقتصادية والاجتماعية كرافعة أساسية
لا يكتمل مشروع الحكم الذاتي دون تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة. وقد جعل المغرب من الأقاليم الجنوبية قطبًا تنمويًا واعدًا، من خلال الاستثمار في البنية التحتية، ودعم المشاريع الصغرى والمتوسطة، وتشجيع الطاقات المتجددة، وتطوير السياحة المستدامة.
وتسهم هذه الدينامية في خلق فرص الشغل، وتقليص الفوارق المجالية، وتحويل الصحراء المغربية إلى فضاء اقتصادي منفتح ومندمج في الاقتصاد الوطني والقاري. كما أن تمكين الشباب والنساء من المشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية يعزز العدالة المجالية، ويكرس مبدأ المواطَنة الفاعلة.
رابعًا: البعد الثقافي والإنساني
يمثل الحفاظ على الهوية الثقافية للصحراء المغربية عنصرًا أساسيًا في إنجاح مشروع الحكم الذاتي. فاللغة الحسانية، والتقاليد، والفنون الشعبية تشكل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية المغربية، وتسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي وترسيخ السلم المجتمعي.
إن صون هذا الموروث الثقافي، في إطار الوحدة الوطنية، يعكس قدرة المغرب على التوفيق بين الخصوصية المحلية والانتماء الوطني، ويُعزز الشعور بالانخراط الجماعي في مشروع وطني جامع.
خامسًا: مغاربة العالم ودورهم في المشروع
كمغربي من الجالية المغربية بالخارج، أرى في الحكم الذاتي فرصة حقيقية لتعزيز ارتباط مغاربة العالم بوطنهم الأم، وجعلهم شركاء فاعلين في التنمية بالأقاليم الجنوبية. ففتح قنوات المشاركة، وتشجيع الاستثمار، ونقل الخبرات والتكنولوجيا، يحول الجالية إلى قوة اقتراح وتأثير، وإلى فاعل تنموي ودبلوماسي موازٍ يدعم القضايا الوطنية للمملكة.
خلاصة:
إن الحكم الذاتي بالصحراء المغربية ليس مجرد حل سياسي ظرفي، بل هو خيار استراتيجي يعكس نضج الدولة المغربية، وقدرتها على تقديم نموذج متوازن يجمع بين السيادة الوطنية، والتنمية المستدامة، والمشاركة الديمقراطية، واحترام الخصوصيات الثقافية. وهو بذلك يشكل دعامة أساسية للاستقرار السياسي والاجتماعي في المنطقة، ونموذجًا قابلًا للاقتداء على المستويين الإقليمي والدولي.
وبصفتي من مغاربة إيطاليا، أتابع هذا المشروع الوطني الطموح بكل فخر واعتزاز، لما يحمله من رؤية مستقبلية تؤكد قدرة المغرب على التوفيق بين الأصالة والحداثة، وبين الانتماء الوطني والانفتاح العالمي.
حفظ الله وطننا المغرب، وبارك في ملكنا صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وأدام على بلادنا نعمة الأمن والاستقرار، ووفقها لمزيد من التقدم والازدهار.
(.) كاتب صحفي ومحلل سياسي مقيم في إيطاليا
مهتم بالشؤون العربية، قضايا الهجرة والاسلام
هذا المحتوى مقدم من موقع بالواضح
