قانون الإثراء غير المشروع : قرينة البراءة أم قرينة الإفلات

تعد قرينة البراءة من أسمى المبادئ الدستورية التي راكمتها الإنسانية في مسار طويل لمواجهة تعسف السلطة، وقد كرسها الدستور المغربي باعتبارها ضمانة أساسية لحماية الأفراد من الاتهام الاعتباطي والعقاب دون سند قضائي. غير أن خطورة هذا المبدأ لا تكمن في وجوده، بل في طريقة توظيفه خارج سياقه الطبيعي، وتحويله من أداة لحماية الحقوق إلى ذريعة لتعطيل آليات المحاسبة، وهو ما يطفو إلى السطح بوضوح في موقف وزير العدل عبد اللطيف وهبي من قانون الإثراء غير المشروع.

إن الدفع بعدم دستورية هذا القانون بدعوى تعارضه مع قرينة البراءة يقوم على قراءة جزئية وانتقائية للمبدأ، قراءة تختزل القرينة في بعدها الجنائي الصرف، وتفصلها عن منظومة دستورية متكاملة قوامها الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.

فقرينة البراءة لا تعني، في أي نظام دستوري ديمقراطي، تحصين المسؤول العمومي من كل مساءلة، ولا تمنع المشرع من ابتكار آليات قانونية عقلانية لمواجهة أنماط الفساد المركب التي يصعب إثباتها بالوسائل الجنائية التقليدية.

في هذا السياق، يقدم وزير العدل أطروحة مفادها أن مطالبة المسؤول بتبرير مصدر ثروته تمثل قلبا لعبء الإثبات، وهو ادعاء يتهاوى أمام التحليل الدقيق.

فقانون الإثراء غير المشروع، في صِيغه المتداولة المقارنة، لا يدين الشخص لمجرد عدم التبرير، بل ينطلق من معطيات موضوعية تثبتها سلطة الاتهام أولا، كوجود تضخم غير عادي في الذمة المالية، وعدم التناسب الصارخ بين الدخل المشروع والثروة المتراكمة، ثم يمنح المعني بعد ذلك كامل الحق في الدفاع والتوضيح. نحن إذن أمام انتقال مشروط لعبء التفسير لا قلب تعسفي لعبء الإثبات.

وهنا يبرز التمييز الجوهري الذي يتجاهله الخطاب الرسمي، وهو التمييز بين القرينة الجنائية المطلقة والقرينة القانونية البسيطة. فالفقه الدستوري المقارن يقر منذ عقود بأن:

"La pr somption d innocence n exclut pas les pr somptions l gales simples, d s lors qu elles sont raisonnables et r fragables."

بل إن الاجتهاد القضائي الأوروبي استقر على أن قرينة البراءة لا تنتهك ما دام للمعني بالأمر الحق الكامل في دحض القرينة وإثبات العكس. ومن ثم، فإن تصوير قانون الإثراء غير المشروع كإعتداء على جوهر العدالة الجنائية ليس سوى تبسيط مخل أو تغليط متعمد للرأي العام.

الأخطر من ذلك أن هذا الطرح يتعامل مع المسؤول العمومي كما لو كان فردا عاديا لا يتمتع بسلطة ولا بنفوذ ولا بإمكانية التأثير في القرار العام، في حين أن المنطق الدستوري يقوم على عكس ذلك تماما. فالوظيفة العمومية ليست حقا ذاتيا مطلقا، بل هي تكليف يرتب التزامات خاصة، وفي مقدمتها واجب النزاهة والشفافية. وقد عبر الفقه الفرنسي عن ذلك بوضوح حين قرر أن:

"L acc s la fonction publique implique l acceptation de contraintes sp cifiques au nom de l int r t g n ral."

وبالتالي، فإن إخضاع المسؤول العمومي لمسطرة خاصة في مراقبة ثروته لا يمس بكرامته ولا ببراءته، بل يترجم مبدأ المساواة الحقيقية، التي لا تعني المساواة في الوضعيات المختلفة، بل المساواة في الخضوع للمساءلة بحسب حجم السلطة.

كما لا يمكن عزل هذا النقاش عن السياق السياسي الذي يثار فيه. فالتذرع المكثف بقرينة البراءة في هذا الملف، يقابله صمت أو مرونة مفرطة حين يتعلق الأمر بانتهاكات أخرى لحقوق أساسية، مما يطرح سؤال الاتساق والمبدئية. إذ لا يستقيم أن ترفع راية الدستور حين تهدد مصالح النخب، وتخفض حين يكون المتضرر هو المواطن العادي. فالدستور ليس مخزنا انتقائيا للمبادئ، ولا قائمة تستعمل وفق منطق الملاءمة السياسية.

Les principes constitutionnels forment un tout indivisible.

ولو كان الإشكال فعلا تقنيا أو دستوريا محضا، لكان الأجدر بوزارة العدل اقتراح صيغة بديلة متوازنة، لا تجميد القانون برمته. غير أن تعطيل النص، مع غياب أي بديل تشريعي جدي، يكشف أن الإشكال ليس في الصياغة فقط، بل في الإرادة السياسية. فالإثراء غير المشروع ليس خطرا قانونيا، بل خطر على منظومة الريع والإفلات من المحاسبة.

إن الخلاصة التي يفرضها هذا التحليل هي أن قرينة البراءة، بدل أن تكون درعا لحماية المواطن من تعسف الدولة، يجري توظيفها هنا كدرع لحماية الدولة العميقة من مساءلة المواطن. وهذا الإنزياح في المعنى هو أخطر ما يهدد الثقة في الخطاب الحقوقي الرسمي، لأنه يفرغ المبادئ من محتواها، ويحولها إلى أدوات تبريرية.

وبذلك، يمكن القول إن معركة الإثراء غير المشروع ليست معركة تقنية بين نصوص قانونية، بل هي اختبار حقيقي لمدى صدق الالتزام الدستوري بمحاربة الفساد، وللقدرة على التمييز بين قرينة البراءة كقيمة عدلية وقرينة الإفلات كواقع سياسي.

وختاما أقول، الدساتير لا تنتهك حين تخرق نصوصها فقط، بل حين تستعمل مبادئها النبيلة لحماية ما وجدت أصلا لمحاربته.


هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من جريدة كفى

منذ 6 ساعات
منذ 7 ساعات
منذ 7 ساعات
منذ 8 ساعات
منذ 7 ساعات
منذ 8 ساعات
جريدة كفى منذ 9 ساعات
هسبريس منذ 16 ساعة
هسبريس منذ 20 ساعة
2M.ma منذ 19 ساعة
موقع بالواضح منذ 11 ساعة
هسبريس منذ 6 ساعات
هسبريس منذ 13 ساعة
هسبريس منذ 16 ساعة