لا يدخل الذكاء الاصطناعي حياتنا كضيف يستأذن، بل كواقع يفرض نفسه بهدوء لا يخلو من الحزم

لا يدخل الذكاء الاصطناعي حياتنا كضيف يستأذن، بل كواقع يفرض نفسه بهدوء لا يخلو من الحزم.

لا يرفع صوته، ولا يطلب موافقة، لكنه يعيد ترتيب الأشياء من حولنا، ثم يتركنا أمام نتائج لم نخطط لها بالكامل. ومع كل تطبيق جديد، وكل نظام أكثر ذكاء، يتراجع السؤال التقني خطوة، ويتقدم سؤال أعمق وأكثر إزعاجا: هل نحن من يستخدم هذه القوة، أم أننا نعتاد عليها حتى تبدأ هي باستخدامنا؟

قوة بلا وجه

يرى كثير من الخبراء أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة متطورة، بل تحولا في طبيعة القوة نفسها. فهي قوة بلا ملامح، وبلا عاطفة، وبلا تردد.

تتعلم بسرعة، وتتحسن دون تعب، وتعمل دون انقطاع. هذا ما يجعلها مبهرة في نتائجها، لكنه في الوقت ذاته مصدر قلق حقيقي. فالخطر لا يكمن في ذكائها، بل في برودها. إنها لا تميز بين ما ينبغي وما لا ينبغي، ما لم نكن نحن من رسم لها هذا الحد الفاصل.

العمل في مهب التحول

كثيرا ما ينحصر النقاش في الوظائف التي ستختفي، وكأن المسألة أرقاما وإحصاءات فقط. غير أن التحول أعمق من ذلك بكثير. الذكاء الاصطناعي لا يغير سوق العمل فحسب، بل يعيد تعريف قيمة الإنسان داخله.

لم يعد المطلوب أن يكون الفرد سريعا فقط، بل واعيا. لا أن ينفذ، بل أن يقرر. ومن يكتفي بدور الآلة، يضع نفسه خارج المشهد، لا لأن التقنية قاسية، بل لأن الواقع لا ينتظر المترددين.

مصانع تفكر ومسؤولية تغيب

في الصناعة، تبدو الصورة أكثر وضوحا. أنظمة تراقب، وتحلل، وتتوقع، وتصحح. مصانع أقل ضجيجا، وأكثر انضباطا. غير أن السؤال الذي يطرحه الخبراء ليس تقنيا بقدر ما هو إنساني: من يتحمل المسؤولية حين تخطئ الخوارزمية؟ ومن يدفع الثمن حين يختفي الخطأ البشري، لكن يحل محله خطأ صامت لا يرى؟ التقنية تفرض كفاءة أعلى، لكنها في المقابل تتطلب ضميرا أعلى.

طب أدق وحاجة أعمق

في المجال الصحي، يظهر الذكاء الاصطناعي بأفضل وجوهه. تشخيص أدق، وتدخل أسرع، وإنقاذ أرواح في لحظات حاسمة. ومع ذلك، لا يزال الخبراء يجمعون على حقيقة بسيطة لا تقبل الجدل: الشفاء لا يصنعه التحليل وحده. المريض لا يبحث فقط عن دقة، بل عن طمأنينة. والآلة، مهما بلغت، لا تمنح شعورا بالأمان. لهذا يبقى الإنسان في القلب، لا على الهامش.

تعليم ذكي وسؤال المعنى

التعليم هو الميدان الأكثر حساسية. نعم، الذكاء الاصطناعي قادر على تخصيص التعلم، وقياس الفهم، ومواكبة الفروق الفردية. لكنه عاجز عن بناء المعنى. المدرسة ليست شاشة، والمعرفة ليست بيانات فقط. وحين يغيب البعد الإنساني، يتحول التعليم إلى تدريب جاف، ويخرج جيلا يعرف كثيرا، ويفهم قليلا.

قرار بلا مساءلة

أخطر ما يحذر منه الخبراء ليس الذكاء الاصطناعي ذاته، بل تسليم القرار له دون مساءلة. حين نثق بالخوارزمية أكثر من حكمنا، وحين نرتاح لنتائجها دون فهمها، نكون قد تنازلنا عن دورنا طوعا. الأخلاق هنا ليست ترفا فكريا، بل ضرورة عملية. من دونها، تتحول القوة إلى عبء، ويتحول التقدم إلى تهديد صامت.

خيار لا مفر منه

الذكاء الاصطناعي لن يختفي، ولن يتوقف، ولن ينتظر. السؤال الحقيقي ليس هل نستخدمه، بل كيف نستخدمه، وتحت أي شروط. هل نريده شريكا يخضع لقيمنا، أم قوة تشكل قيمنا من حيث لا نشعر؟ هل نملك الشجاعة لنقوده، أم نكتفي بالتكيف معه؟ المستقبل لا يكتبه الذكاء الاصطناعي وحده، بل يكتبه وعي الإنسان حين يقرر متى يستخدم عقله، ومتى لا يسمح لغيره أن يفكر عنه.


هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من جريدة كفى

منذ 5 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 5 ساعات
هسبريس منذ 8 ساعات
هسبريس منذ 14 ساعة
وكالة الأنباء المغربية منذ 14 ساعة
موقع بالواضح منذ 8 ساعات
هسبريس منذ 12 ساعة
موقع فاربريس منذ 5 ساعات
هسبريس منذ 3 ساعات
هسبريس منذ 13 ساعة