ثقافة النهوض المؤجَّلة، لماذا أخفقت المناظرة الوطنية في صناعة أفق جديد للتخييم؟

ما حدث ليس لحظة عابرة بقدر ما هو نتيجة لمسار طويل من الأعطاب البنيوية التي جعلت العمل الجمعوي يتحرك في كثير من الأحيان داخل منطق الإجراء والتدبير، بدل منطق الرؤية والمعنى والسؤال.

حين يصبح الحضور هدفًا بدل أن يكون وسيلة

تحوّلت المناظرات في السنوات الأخيرة إلى فضاءات بروتوكولية أكثر منها فضاءاتٍ للتفكير الجماعي فالحضور الكثيف يُقدَّم بوصفه إنجازًا في حد ذاته، بينما تغيب لحظات النقاش العميق والمساءلة النقدية وهكذا يُختزل الحدث في صور جماعية وتصريحات صحفية، دون أن يتحول إلى محطة مراجعة تعيد ترتيب الأولويات وتُنتج معرفة مشتركة حول واقع التخييم ورهاناته المستقبلية.

غير أن خطورة هذا التحوّل لا تكمن فقط في طغيان الشكل على المضمون، بل في ترسيخ ثقافةٍ مؤسسية تُفضّل الأمان الرمزي على شجاعة التفكير فحين تتحول المناظرة إلى مناسبة احتفالية مُغلَقة على خطابٍ جاهز، تُوضع الأسئلة المزعجة خارج القاعة، ويتراجع دور الفاعلين من شركاء في صناعة الرؤية إلى مجرّد حضور رقمي يملأ المقاعد ومع الوقت، يصبح التوافق الشكلي بديلاً عن الاختلاف الخلّاق، وتتحوّل لغة التقرير إلى بديل عن النقد والتقييم وهكذا نفقد دون أن نشعر جوهر المناظرة بوصفها مختبرًا للأفكار ومجالاً لإعادة بناء المعنى، لا منصة لالتقاط الصور وإعادة إنتاج الوضع نفسه بعبارات مختلفة.

من الرؤية إلى التقرير انقلاب الأولويات

بدل أن تنطلق النقاشات من أسئلة المعنى والهدف والتصور التربوي، يتم الانشغال بلغة التقارير والبرامج والنِّسَب والنتائج الرقمية وهكذا يطغى منطق المشروع - التمويل - الإنجاز على منطق الرؤية - التراكم - التقييم ومع مرور الوقت، تتحول التجربة إلى نشاطٍ إداري محكوم بإكراهات الأجندات والميزانيات أكثر من ارتباطه بغاياته التربوية والثقافية.

وعندما يُختزل التخييم في بعده التقني واللوجيستي، يفقد دوره الرمزي والقيمي بريقه، ويتراجع أثره في بناء شخصية الطفل واليافع والمواطن فبدل أن يكون فضاءً للخيال والمغامرة والتعلم عبر اللعب، يصبح مجرد دورة موسمية مكررة، تُقاس نجاحاتها بالأرقام لا بالأثر، وبعدد المستفيدين لا بنوعية التجربة التي تُنحت في وعيهم وسلوكهم وهنا تكمن المفارقة نشاطٌ تربوي في جوهره، لكنه يُدار بمعايير إدارية لا ترى ما وراء الجداول والتقارير.

التخييم كرهان تربوي مغيّب

جوهر التخييم ليس الخيام ولا الفضاءات ولا الجداول الزمنية جوهره القيم والتنشئة والخيال والتجريب فهو مساحة يتعلم فيها الطفل كيف يتعاون، وكيف يتحمّل المسؤولية، ويكتشف ذاته والعالم من حوله خارج القيود المدرسية الصارمة غير أن هذا البعد التربوي كثيرًا ما يظل في الهامش أمام هيمنة النقاش الإداري والتنظيمي، حيث تُقاس التجربة بما تم توفيره من تجهيزات وإعدادات أكثر مما تُقاس بما تُحدثه من تحوّل في الوعي والسلوك.

ويغيب بالتالي السؤال الكبير ما معنى التخييم اليوم في مجتمع متغير؟

هل هو مجرد نشاط ترفيهي موسمي، أم فضاء لبناء شخصية مستقلة وناقدة؟

كيف نضمن الجودة بدل الاكتفاء بالكمّ؟

وهل يمكن الحديث عن نجاح التجربة دون مساءلة أثرها على قيم المشاركة والانتماء والمسؤولية؟

وكيف نجعل التخييم رافعة للمواطنة والوعي والنقد بدل أن يبقى نشاطًا مكررًا، يُعاد كل سنة بالآليات نفسها والنتائج نفسها؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة شرط أساسي لرد الاعتبار للتخييم بوصفه مشروعًا تربويًا وثقافيًا، لا مجرد ملف إداري ضمن ملفات أخرى.

أعطاب بنيوية تعيق التفكير الجماعي

يتقاطع هذا الإخفاق مع عوامل أعمق متجذّرة داخل الحقل الجمعوي نفسه، حيث تتجلى هشاشة الثقافة النقدية وضعف الاستقلالية الفكرية، إلى جانب تشتت الفاعلين وغياب مرجعية مشتركة تؤطر العمل والتصورات.

كما يفاقم الوضعَ ذلك الحذرُ المفرط الذي تفرضه علاقة عدد من الجمعيات بالتمويل العمومي، بما يحدّ من جرأة النقد ويجعل الخطاب ميّالًا إلى المهادنة أكثر من المراجعة.

وفوق ذلك، يبرز غياب قيادة فكرية جامعة قادرة على بلورة رؤية مشتركة وتوجيه النقاش نحو الأسئلة الكبرى بدل الاكتفاء بالتفاصيل الإجرائية وضمن هذه الشروط مجتمعةً، يتحول الاجتماع الكبير إلى مجرد تجميع للأصوات لا توليدًا للأفكار، ويغيب العقل الناهض الذي يُحدث الفرق ويصنع التحول.

نحو مسار إصلاحي يقوم على النقد والمساءلة

لن تتحقق ثقافة النهوض عبر الشعارات أو المناسبات الشكلية، بل عبر مسار متدرّج وممنهج يرتكز على فهم عميق للعلاقة بين التفكير والعمل، بين الرؤية والتطبيق هذا المسار يتطلب أولًا مراجعة صريحة للتجربة وأخطائها، لا مجرد الإشارة إليها أو تزيينها، فالمساءلة الصادقة هي الشرط الأساسي لتوليد المعرفة الحقيقية ولتصحيح مسارات العمل المتعثرة.

كما يستلزم وضع ميثاق تربوي موجِّه وواضح المعالم، يحدد ليس فقط القيم والأهداف، بل أيضًا آليات التفاعل والمساءلة، ليصبح المرجع المشترك لكل الفاعلين، ويحول الاختلافات الفردية أو التنظيمية إلى قوة دافعة للإبداع بدل أن تتحول إلى عامل تشتيت.

إضافة إلى ذلك، لا يمكن أن تبقى التوصيات حبرًا على ورق، بل يجب ربطها بآليات للتتبع والالتزام الزمني، بحيث تصبح عملية مستمرة وليست حدثًا عابرًا وهنا يظهر الدور الحيوي لإعادة الاعتبار للنقاش الفكري داخل العمل الجمعوي، حيث يتحوّل الحوار المدروس إلى محرّك للتفكير النقدي، ولتوليد حلول مبتكرة تعكس فهمًا عميقًا للسياق وللرهانات المجتمعية

فالعدد وحده لا يصنع النهضة بل الوعي الجمعي، والشجاعة الفكرية، والإرادة الصلبة في الانتقال من منطق الحدث العابر إلى منطق البناء التراكمي المستمر هي التي تصنع الفارق.

النهوض الحقيقي يبدأ حين تصبح المعرفة والتجربة والمساءلة جزءًا من ثقافة العمل اليومية، وليس مجرد طقس موسمي أو مناسبات احتفالية.


هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من جريدة كفى

منذ 5 ساعات
منذ 7 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 8 ساعات
موقع طنجة نيوز منذ 7 ساعات
بلادنا 24 منذ 50 دقيقة
هسبريس منذ 52 دقيقة
هسبريس منذ 11 ساعة
Le12.ma منذ 6 ساعات
موقع بالواضح منذ 5 ساعات
هسبريس منذ 4 ساعات