في السنوات الأخيرة، بدأت عدة دول في المنطقة إعادة النظر في الطريقة التي تُدار بها مكافأة نهاية الخدمة، في ظل تغيرات سوق العمل، وتزايد أعداد المقيمين، وارتفاع كلفة الاعتماد على النماذج التقليدية للحماية المالية.
الإمارات كانت من أوائل الدول التي بادرت إلى هذا المسار عبر نظام الادخار البديل لمكافأة نهاية الخدمة، لتفتح نقاشاً أوسع في المنطقة حول جدوى تحويل هذا الاستحقاق من التزام مؤجل إلى أداة ادخار منظمة.
في هذا السياق الإقليمي، أصدرت دولة قطر قراراً مفصلياً يؤشر إلى انتقال هذا النقاش من مستوى التجربة إلى مستوى التصميم المؤسسي.
القرار رقم (34) لسنة 2025، الذي نُشر في الجريدة الرسمية منتصف ديسمبر، نصّ على إنشاء لجنة معنية بمشروع مكافأة نهاية الخدمة والمساهمات الأخرى للموظفين والعاملين بالدولة، في خطوة تمهّد لتأسيس نظام ادخاري واستثماري جديد يعيد صياغة أحد أهم حقوق العاملين.
وحيث إن القرار لا يفرض نظاماً جاهزاً، لكنه يؤسس لإطار عمل واضح، يهدف إلى تحويل مكافأة نهاية الخدمة من مجرد مبلغ يُصرف عند انتهاء العلاقة الوظيفية، إلى رصيد مالي منظّم يمكن أن ينمو بمرور الوقت، ويُدار ضمن آليات إشراف وحوكمة واضحة.
موازنة قطر 2026.. كيف تُدار المخاطر في مرحلة ما بعد النفط؟
تحول جذري في فلسفة التعويضات
تخيّل أنك عملت عشرين عاماً، وفي نهاية المطاف تحصل على مبلغ مقطوع قد لا يكفيك أكثر من بضع سنوات. هذا هو الواقع التقليدي لمكافآت نهاية الخدمة. لكن قطر قررت كتابة سيناريو مختلف تماماً من خلال نظام يستثمر الأموال طوال سنوات الخدمة، لتحصل في النهاية على مبلغ أكبر بكثير مما كنت ستحصل عليه بالطريقة التقليدية.
اللجنة المشكّلة برئاسة وزير المالية تضم ممثلين عن مكتب رئيس الوزراء، الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ووزارات المالية والتجارة والعمل والتنمية الإدارية، إضافة إلى مصرف قطر المركزي، جهاز قطر للاستثمار، مركز قطر للمال، وغرفة التجارة والصناعة.
هذه الجهات الثقيلة الوزن تؤكد جدية المشروع وطموحه، وهو ما يلفت انتباه الخبير الاقتصادي ورائد الأعمال بدر بن دلهم الهاجري الذي يؤكد أن «قطر تتمتع بخبرة عالية في إدارة الصناديق الكبرى، فإن ضخ هذه الأموال في استثمارات مدروسة سيعزز التنمية المستدامة ويزيد من عمق السوق المالي، دون التأثير سلباً على السيولة اليومية، ما يؤكد قدرة قطر على تحويل الموارد الضخمة إلى محرك اقتصادي متين على أرض الواقع».
لماذا الآن؟
ويرى محمد يوسف البهزات، رئيس مجلس الأعمال العربي الأوروبي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، أن الأسباب وراء هذا التوجه متعددة، لكنها جميعاً تصب في خدمة رؤية اقتصادية واجتماعية أوسع. ويضع البهزات حماية حقوق العمال في صدارة هذه الأسباب، مشيراً إلى أن النظام التقليدي لمكافأة نهاية الخدمة يترك الموظف مكشوفاً أمام مخاطر تعثر الشركة أو إفلاسها، ما قد يؤدي في بعض الحالات إلى ضياع المكافأة بالكامل.
ويضيف أن النظام المقترح، من خلال حفظ المستحقات في صندوق مستقل تماماً عن الوضع المالي لصاحب العمل، يقلل بشكل كبير من النزاعات العمالية المرتبطة بمكافأة نهاية الخدمة، ويحد من حالات التأخر أو عدم السداد التي تظهر أحياناً في النموذج التقليدي. ووفق البهزات، فإن الوجود ضمن إطار منظم ومدار حكومي يعزز الثقة ويمنح الموظف ضمانة قانونية ومالية أوضح.
ويؤكد بدر بن دلهم الهاجري، الخبير الاقتصادي ورائد الأعمال، بقوله: «وجود صندوق طويل الأجل يوفر أماناً مالياً للمقيمين والموظفين المهرة، ما يعزز تنافسية قطر على مستوى العمالة العالمية، وهو دليل آخر على احترافية التخطيط القطري وقدرته على الجمع بين الأمان المالي والتحفيز المهني».
أما على مستوى الاقتصاد الكلي، فيلفت البهزات إلى أن أحد أهداف النظام يتمثل في تقليل تسرّب السيولة من الاقتصاد الوطني، في ظل التحويلات الكبيرة التي يرسلها المقيمون إلى الخارج سنوياً في دول الخليج. ويشير إلى أن توفير بديل استثماري منظم وجاذب داخل قطر يخلق حافزاً حقيقياً للإبقاء على جزء من هذه الأموال داخل الدورة الاقتصادية المحلية، بما يدعم الأسواق المالية والاستثمار طويل الأجل.
وفي هذا السياق، يضيف الهاجري: «صندوق نهاية الخدمة يمثل خطوة استراتيجية نحو تنويع مصادر الاستثمار الوطني. عبر ضخ الأموال في مشاريع محلية متنوعة ومدروسة، يمكن تقليل الاعتماد التدريجي على الإيرادات النفطية، مما يعكس رؤية قطر في بناء اقتصاد مستدام ومستقل عن تقلبات الأسواق العالمية».
منظر عام لفندقي رافلز وفيرمونت في الدوحة، قطر، بتاريخ 21 ديسمبر 2024.
الجميع مستفيد
النظام الجديد يشمل جميع الموظفين والعاملين في الدولة سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص.
بالنسبة للمواطنين القطريين، يقدم النظام برنامج ادخار طوعي يُمكّنهم من المساهمة في مدخرات إضافية إلى جانب نظام المعاش التقاعدي القائم، دون الإخلال بحقوقهم في نظام التقاعد القانوني، وهو ما يعني طبقة حماية إضافية وأمان مالي أكبر بعد التقاعد.
أما المقيمون، فيركّز المشروع على استثمار مكافآت نهاية الخدمة الخاصة بهم وأية مساهمات مالية أخرى، بهدف تعظيم استفادتهم منها وتشجيعهم على ادخارها داخل قطر بدلاً من تحويلها بالكامل إلى الخارج.
يوضح الهاجري هذه النقطة بقوله: «النظام الجديد يوفر للمقيمين أدوات استثمارية جذابة وآمنة، تشجعهم على إبقاء جزء من مدخراتهم داخل قطر بدل تحويلها بالكامل إلى الخارج».
هذا التوجه يعالج فجوة تاريخية، إذ يرى الهاجري أن «النظام يراعي التوازن بين المواطنين الذين لديهم نظام تقاعد قائم والمقيمين الذين قد لا يمتلكون هذا الضمان. ويمكن أن يُوحد مع مراعاة الفروقات، بما يحقق استقراراً مالياً للجميع».
آليات الاستثمار: الأمان والنمو معاً
هذا النظام وفق الهاجري «يعتمد على إدارة استثمارية متوازنة، تجمع بين أدوات منخفضة المخاطر وأخرى عالية العائد، مع إعادة توازن دورية ورقابة دقيقة. هذا النهج يظهر قدرة قطر على حماية مدخرات الموظفين، خصوصاً من هم قريبون من سن التقاعد، دون تعريض الاستثمارات لأي مخاطر غير محسوبة».
التجربة الإماراتية القريبة اعتمدت توفير خيارات محافظ استثمارية متعددة، منها خيار محافظ برأس مال مضمون ضمن نظام ادخار نهاية الخدمة، وبالتالي قد نرى توجهاً مشابهاً في قطر لضمان تلبية مختلف تفضيلات وقدرات الادخار لدى الموظفين. فقد يختار البعض استثمارات محافظة مضمونة، بينما قد يفضل آخرون استثمارات أعلى عائداً.
وجود مصرف قطر المركزي وجهاز قطر للاستثمار في اللجنة يضمن أن أي صندوق قادم سيكون متوافقاً مع المعايير المالية والتنظيمية في الدولة، ويخضع لإشراف حثيث لضمان السلامة والشفافية. كما يشير نص القرار بوضوح إلى منح اللجنة صلاحية التعاقد مع الجهات أو الشركات المتخصصة في مجال الاستثمار لإدارة برنامج الادخار، وهو ما يعني احتمال إسناد إدارة الصناديق إلى مديري استثمار محترفين من البنوك أو شركات الاستثمار المرخصة محلياً أو عالمياً، مع وضع ضمانات صارمة في عقود هذه الإدارات لحماية أموال المشتركين.
التأثير على سوق رأس المال والاقتصاد الكلي
حجم الأصول المتوقعة لصندوق مكافآت نهاية الخدمة سيكون ضخماً، وهو ما سيكون له تأثير محوري على بنية الاقتصاد القطري. يشير الهاجري إلى أن «إدارة أصول بهذا الحجم ستساهم بشكل مباشر في تعميق السوق وزيادة تنوع الأدوات الاستثمارية، من صناديق مشتركة إلى سندات طويلة الأجل، مما يرفع حجم التداول ويخلق بيئة أكثر نضجاً وجاذبية للمستثمرين المحليين والأجانب، ويعكس كفاءة قطر في دمج الاستثمارات الجديدة بطريقة مدروسة ومؤثرة».
ومن المتوقع أن يسهم هذا النظام الادخاري في تعزيز الاستقرار المالي للموظفين على المدى الطويل. بالنسبة للمواطنين، سيوفر البرنامج الطوعي وسيلة إضافية للادخار تزيد مدخراتهم التقاعدية بجانب معاش التقاعد الحكومي، الأمر الذي يرفع مستوى الأمان المالي بعد التقاعد.
أما للوافدين الذين لا تشملهم صناديق تقاعد وطنية، فإن استثمار مستحقات نهاية الخدمة قد يوفّر لهم رصيداً تقاعدياً فعلياً يمكن الاعتماد عليه أو سحبه عند انتهاء الخدمة، بدلاً من الاعتماد فقط على مبلغ مقطوع ثابت.
قطر تتوقع عجزاً بنحو 6 مليارات دولار في موازنة 2026
التحديات المحتملة
رغم الطموح الكبير، يدرك الخبراء أن التطبيق سيواجه تحديات عملية تتطلب معالجة دقيقة. يحدد البهزات أبرز هذه التحديات في عدة نقاط رئيسية تبدأ بالثقة والشفافية، حيث يتطلب النجاح إقناع الموظفين بسلامة النظام واستقلاليته عن المخاطر السياسية أو الإدارية.
ثم تأتي مسألة التقلبات المالية العالمية، إذ يجب حماية المدخرات من تقلبات الأسواق وأسعار الفائدة. يعلق الهاجري على هذه النقطة موضحاً أن «النظام يبنى على تقديرات دقيقة للتضخم ونمو الأجور ومتوسط مدة الخدمة ومعدلات التنقل بين الوظائف».
يبرز أيضاً التحدي المتعلق بالإطار القانوني والتنظيمي، حيث يتطلب الأمر وضع تشريعات واضحة تضمن حقوق المشتركين وتحدد آليات الرقابة. من المتوقع صدور تشريعات أو لوائح تنفيذية مرافقة لتأسيس هذا النظام الادخاري، لضمان وجود أساس قانوني قوي يُلزم أصحاب العمل والموظفين وفق نطاق التطبيق الذي يُقر لاحقاً.
إضافة لذلك، تحتاج قضية التوعية والثقافة المالية إلى جهد كبير لرفع مستوى فهم الموظفين لأهمية الادخار والاستثمار طويل الأجل. لهذا ستقوم اللجنة بإطلاق حملات توعية مجتمعية لشرح مزايا النظام الجديد وحثّ الموظفين وأصحاب العمل على الاشتراك فيه.
يضيف البهزات أنه «ينبغي على المتقاعد الجديد أن تترك له حرية الاختيار، يعني أن يكون قراره بالدخول في المحفظة الاستثمارية اختيارياً وليس إجبارياً، لأن هناك بعض المتقاعدين لديهم بالفعل مشاريعهم على المستوى الشخصي».
يشدد البهزات أيضاً على ضرورة التمثيل الواقعي للمستفيدين في اللجان قائلاً: «ينبغي مشاركة فريق من المتقاعدين المتخصصين ذوي الخبرة في تمثيل المتقاعدين من ذوي الخبرة في عضوية اللجان الاستشارية والتنفيذية».
الإلزامية مقابل الاختيارية
يرى «الهاجري أن أفضل خيار يتمثل في إلزامية مدروسة مع خيارات استثمارية مرنة، لضمان شمولية النظام مع احترام حرية الفرد في اختيار كيفية استثمار أمواله. هذا المزيج يحقق العدالة ويضمن فعالية الصندوق على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ويظهر عقلانية قطر في تصميم برامج تحافظ على حقوق جميع الأطراف».
ويوافقه البهزات في قوله: «ينبغي على المتقاعد الجديد الذي أنهى خدمته للتو أو الحالي أن يترك له حرية الاختيار، بمعنى أن يكون قراره بالدخول في المحفظة الاستثمارية اختيارياً وليس إجبارياً لأن هناك بعض المتقاعدين لديهم بالفعل مشاريعهم على المستوى الشخصي».
دروس من تجارب الدول الأخرى
قطر لا تبدأ من الصفر، بل تتعلّم من أفضل التجارب العالمية. تُعَدُّ سنغافورة رائدة عالمياً في ابتكار نظام ادخار تقاعدي شامل منذ عقود من خلال صندوق الادخار المركزي الذي تأسس عام 1955.
ويرى البهزات أنه في الوقت الحاضر يمكن لصندوق التقاعد القطري الاستثماري الاسترشاد بآلية الادخار والاستثمار المتبعة في كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وسنغافورة.
التجربة الإماراتية اعتمدت النموذج الاختياري، حيث يقوم على مبدأ اختيار صاحب العمل الاشتراك فيه طوعاً لصالح موظفيه، بينما نظام سنغافورة إلزامي وحقق نجاحاً باهراً على مدى سبعين عاماً. هولندا أيضاً اعتمدت الإلزامية عبر صناديق مهنية وحققت أفضل نتائج عالمياً.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

