"وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة".
ليست هذه الآية الكريمة من سورة الحشر مجرد توصيفٍ أخلاقي عابر، بل هي تأسيسٌ قيميٌّ عميق لمنظومة اجتماعية كاملة، قوامها الإيثار، وجوهرها تقديم الإنسان لأخيه الإنسان، لا من فائض الغنى، بل من قلب الحاجة نفسها.
ومن هذا المعين القرآني الصافي تشكّلت عبر القرون إحدى أبرز سمات الشخصية المغربية: التضامن النابع من الفقر، لا المشروط باليسر.
فقراء المغرب، عبر التاريخ، لم يكونوا يومًا خارج معادلة العطاء، بل كانوا في قلبها. يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة، لا طلبًا لثناء، ولا انتظارًا لمقابل، بل استجابةً لفطرةٍ إنسانية تشبّعت بالقيم الدينية، وتحوّلت مع الزمن إلى عرفٍ اجتماعي راسخ.
الإيثار هنا صفة المؤمن أولًا، لأنه امتثالٌ للنص وروحه، وصفة الوطني ثانيًا، لأنه تعبير عن الانتماء للجماعة، وصفة الإنساني ثالثًا، لأنه انحيازٌ للحياة في وجه المأساة.
وحين نعود إلى التاريخ، تتبدّى هذه القيم بجلاء في واحدة من أعقد المحطات: موجات نزوح الأندلسيين، مسلمين ويهودًا، هربًا من الفاشية السياسية والدينية بعد سقوط الأندلس.
لم يكن المغرب آنذاك بلد رفاه، ولا مجتمع وفرة، ومع ذلك فتح أبوابه وقلوبه. تقاسم أهله الخبز والمأوى، واحتضنوا الوافدين لا بوصفهم غرباء، بل باعتبارهم امتدادًا إنسانيًا وثقافيًا. كان ذلك درسًا مبكرًا في أن التضامن لا يحتاج إلى ثراء، بل إلى ضمير حي.
ويمتد هذا السلوك نفسه إلى الزمن المعاصر، حيث تتكرر المشاهد ذاتها بأسماء مختلفة:
من زلزال الحسيمة، إلى زلزال الحوز، إلى فيضانات آسفي، في كل كارثة كبرى، ينهض المغاربة البسطاء قبل غيرهم. ترى الفقير يسارع إلى نجدة الفقير، والميسور يمد يده، لكن اللافت دائمًا أن من لا يملك إلا القليل، يعطي الكثير. نساء يقدّمن مؤونة بيوتهن، شبّان يغامرون بأرواحهم في الإنقاذ، عائلات تفتح بيوتها للنازحين، دون عدسات، ودون بيانات رسمية.
هذا التضامن الشعبي العفوي ليس حدثًا طارئًا، بل هو الركيزة الصامتة التي ظلّت تسند البناء الاجتماعي المغربي. هو ما حفظ التماسك الأسري، ووطّد العلاقات العائلية، ومنع المجتمع من الانهيار في لحظات الشدة حين قصّرت السياسات أو غابت العدالة المجالية. إنه رأس مال غير مكتوب، لكنه الأصدق والأكثر فاعلية.
ولعل أخطر ما قد يواجه هذا الرصيد القيمي هو تحويله إلى مادة استهلاكية في الخطاب، أو استغلاله لتبرير التقصير المؤسساتي.
فالإيثار فضيلة، نعم، لكنه لا يجب أن يكون بديلاً عن الحقوق، ولا غطاءً عن الإهمال. غير أن هذا لا ينتقص من جوهره، بل يحمّل الدولة والمجتمع معًا مسؤولية صونه وتثميره في سياسات عادلة، تعترف بتضحيات الفقراء بدل الاتكاء عليها.
في النهاية، يظل الإيثار المغربي تجسيدًا حيًا للآية الكريمة:
قيمٌ تمشي على قدمين، وتتكلم بلهجة البسطاء، وتظهر بأبهى صورها حين تشتد الأزمات.
هو دليل على أن هذا المجتمع، مهما أثقلته الخصاصة، لا يزال قادرًا على أن ينتصر للإنسان.
هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى
