كانت منطقة المغرب الكبير يوم 14 دجنبر الجاري، على موعد مع حدث سيكون له ما بعده، ويتعلق الأمر بإعلان منطقة القبائل شرق الجزائر، عن استقلالها، ما جعل الجارة الشرقية في حرج، خاصة وأن دستورها ينص صراحة على دعم الشعوب في تقرير مصيرها ؛ فأمر إعلان استقلال القبائل ستكون له عواقب حتى على المغرب، وباقي البلدان.. إذ من المحتمل أن تنطلق في القبائل حركة مسلحة، ومن الممكن كما هي عادتها أن تتهم الجارة الشرقية بلدان الجوار بدعمها، ومن طبيعة الحال ستكون أول دولة توجه إليها التهمة هي المغرب. يقدم هذا الملف محطات تاريخية اتهمت فيها الجزائر المغرب بدعم حركة القبائل، كما يقدم رسالة أرسلتها الجارة الشرقية سنة 1979 إلى هيئة الأمم المتحدة، تتهم فيها المغرب بإلقاء السلاح في القبائل ودعم أعمال إرهابية داخل الجزائر خلال الحداد على وفاة الرئيس الجزائري هواري بومدين.
أعد الملف: سعد الحمري
اتهام المغرب بدعم القبائل بدأ سنة 1963
إن للجزائر تاريخ طويل في اتهام المغرب بدعم حركة الماك في منطقة القبائل، وكانت أول مرة بعد استقلال الجزائر مباشرة؛ فقبل حرب الرمال بقليل، اندلعت حركة تمرد في منطقة القبائل برئاسة المقاوم كريم بلقاسم، وقد تزامن ذلك مع الحرب الكلامية بين المغرب والجزائر بسبب مشكلة الحدود، التي أدت إلى حرب الرمال في أكتوبر 1963، لكن الغريب في الأمر، أن وسائل الإعلام الجزائرية الرسمية، رغم أنها كانت بدائية في تلك المرحلة، شنت حربا على المغرب واتهمته بدعم وتمويل حركة كريم بلقاسم.
وجد المغرب نفسه مجبرا على توضيح حقيقة الموضوع، لذلك عقد الملك الراحل الحسن الثاني ندوة صحفية يوم 24 أكتوبر 1963، بمقر بلدية مراكش، حضرها مراسلون صحفيون دوليون، ورغم أن موضوعها كان هو تسليط الضوء وتقديم وجهة نظر الحكومة المغربية حول مشكلة الحدود، إلا أن الملك أبى خلال أطوار هذه الندوة الصحفية، إلا أن يتطرق للمزاعم الجزائرية حول دعم المغرب للحركة المسلحة الأولى لمنطقة القبائل بعد الاستقلال، ويعمل على دحضها، حيث كانت الدعاية الجزائرية تقول بأن المغرب استقبل كريم بلقاسم في طنجة ويقود منها حركة التمرد، فنفى الملك الحسن الثاني أن يكون كريم بلقاسم في المغرب، وقدم دليلا قاطعا، حيث أوضح أن بلقاسم طلب اللجوء في سويسرا واستجابت الحكومة السويسرية لطلبه، ووقع التزاما بعدم القيام بأي عمل سياسي فوق أراضيها، في الوقت الذي كانت فيه الجزائر تتهم المغرب باحتضانه.
رسالة جزائرية سنة 1979 تتهم المغرب بـ إنزال شحنة أسلحة في منطقة القبائل
انتهت هذه المرحلة، ثم استمرت العلاقات بين البلدين في التوتر كما يعلم الجميع، حتى جاء حدث المسيرة الخضراء، الذي كان له ما بعده، ويتعلق الأمر بمرض الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، وتوفي يوم 27 دجنبر 1978، ومنع الوفد المغربي من تشييع جنازته.
وبعد وفاته مباشرة، عثرنا على وثيقة في أرشيف هيئة الأمم المتحدة، متاحة للعموم للاطلاع عليها، مؤرخة بـ 29 يناير 1979، تحت رقم s/13057، الوثيقة أرسلتها وزارة الخارجية الجزائرية إلى البعثة الدائمة للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية لدى الأمم المتحدة، من أجل تسليمها إلى رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتلتمس منه البعثة الجزائرية أن يتكرم بتوزيع هذه الرسالة بوصفها وثيقة لمجلس الأمن.
جاء في تفاصيل الرسالة تذكير باحتجاج سابق قدمته الجارة الشرقية إلى مجلس الأمن، حيث ذكرت الرسالة أنه في الشهر الماضي، عندما كانت الجزائر تشعر بقلق عميق بشأن الحالة الصحية للرئيس بومدين، أكدت الجزائر لمجلس الأمن أن طائرة أجنبية حلقت على ارتفاع منخفض فوق البحر، وقامت بإلقاء كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة والمتفجرات على بعد 1500 كيلومتر من السواحل الجزائرية، جنوب رأس سيغلي، على بعد حوالي 150 كيلومترا شرق العاصمة .
كما ذكرت الرسالة أن قوات الأمن، التي أبلغها السكان على الفور، صادرت كامل الشحنة، ثم تطرقت الرسالة إلى مصدر هذه الشحنة الضخمة، حيث أوضحت أن التحقيق أثبت بشكل قاطع ومؤكد هوية الطائرة ، وجاء في الرسالة: كانت الطائرة عسكرية مغربية من طراز هرقل C.130، وقد تمت عملية الإنزال بالمظلات من المغرب من قبل أجهزة المديرية العامة للدراسات والتوثيق بقيادة العقيد الدليمي، وقد كُلف العقيد هارشي، بمساعدة المقدم حسني مصطفى والنقيب حسن، بتنفيذ هذه العملية. غادرت الطائرة المغربية من طراز C.130، مع حمولتها، قاعدة القنيطرة يوم الأحد 10 دجنبر 1978 على الساعة 19:45 متجهة إلى نقطة سيغلي .
وتابعت الرسالة: وقد شكل هذا الاعتداء المتعمد الذي نفذته السلطات المغربية، انتهاكا خطيرا لسيادة بلدنا وسلامته الإقليمية، وخرقا صارخا لميثاق الأمم المتحدة، كما شكل تهديدا خطيرا لأمن المنطقة وخطرا على السلام الدولي، وقد أعربت الحكومة الجزائرية، التي تشعر بقلق مشروع إزاء هذا الانتهاك الصارخ لسيادة أراضيها وسلامتها الوطنية، عن إدانتها الشديدة لهذا العمل العدواني، ورفعت احتجاجها الشديد عليه .
ثم تناولت الرسالة حادثة أخرى ادعتها الجزائر يوم 26 يناير 1979، حيث جاء في الرسالة: واليوم، في الوقت الذي لا تزال فيه الجزائر في حداد على الرئيس هواري بومدين، وتُعقد أعمال المؤتمر الرابع للجبهة التحريرية الوطنية، أجد نفسي مرة أخرى من الواجب المؤلم أن ألفت انتباهكم إلى مسؤولية السلطات المغربية عن المحاولات الإجرامية التي تعرض لها سكان مدينة مغنية الجزائرية، في 26 يناير 1979، في الواقع، في 26 يناير الماضي، أي عشية افتتاح المؤتمر الرابع للجبهة الوطنية للتحرير، وأصيب 17 شخصا في مغنية بجروح جراء انفجار عبوة ناسفة مزودة بنظام تفجير كهربائي وضعها مواطن مغربي بتحريض من السلطات المغربية، وفي اليوم نفسه، تم العثور على حقيبة تحتوي على متفجرات وثلاثة قنابل يدوية ومفجر في محطة الحافلات في وهران. وأخيرا، في 28 يناير 1979، ألقى الأمن القبض على مواطن مغربي كان يحمل قنبلة مزودة بنظام إشعال متطور في مدينة مغنية، واعترف هذا الشخص بأن الأجهزة المغربية كلفته بالقيام بعمل إجرامي .
وكتعليق منا على ما جاء في هذه الرسالة: ألم تقم السلطات الجزائرية بطرد كل المغاربة من ترابها في المسيرة السوداء أواخر سنة 1975، كرد فعل على المسيرة الخضراء في الصحراء المغربية؟ فكيف بقي شخص مغربي في الجزائر لمدة أربع سنوات ؟
وتابعت الرسالة: تلفت الجزائر، مرة أخرى، انتباه المجتمع الدولي إلى العواقب الوخيمة التي قد تنجم حتما عن تكرار مثل هذه الأعمال الاستفزازية والعنيفة، التي تأتي في أعقاب التهديدات المتكررة بانتهاك حدودها الوطنية التي يطلقها المغرب بانتظام .
وختمت الرسالة بموضوع بعيد عن الاعتداء الذي تعرضت له الجزائر كما تدعي، وهو موضوع الصحراء، حيث جاء في الرسالة: كما أن المغرب لا يزال يتجاهل الأخلاق الدولية وقرارات منظمة الوحدة الإفريقية ومنظمة التضامن الإفريقي، وحركة عدم الانحياز، في معارضة حق الشعب الصحراوي المشروع في تقرير المصير والاستقلال، الذي أكدته مؤخرا بشكل رسمي الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهكذا، فإن المغرب، الذي لم يتوقف عن عرقلة جهود الجميع من أجل التهدئة والبحث عن حل عادل ودائم لهذه المشكلة، وهو ما تتمنى شعوب المنطقة والمجتمع الدولي بأسره، ينخرط اليوم في مغامرة جديدة، معتقدا على الأرجح أن الظروف التي يعيشها الشعب الجزائري حاليا قد تسمح له بالاعتداء على سيادته ومكتسبات ثورته دون عقاب .
وتم ختم الرسالة بالتالي: إنني، وأنا أشجب اليوم بشدة موقف الحكومة المغربية، أطلب منكم، سيدي الرئيس، أن تبلغوا منظمتنا على النحو الواجب بهذه الوقائع والظروف التي أحاطت بها والعواقب الخطيرة التي قد تترتب عليها.
إن الجزائر، وإدراكا منها لمسؤولياتها تجاه حرية جميع شعوب المنطقة، ولا سيما الشعب الصحراوي، والروابط الأخوية الوطيدة التي تربطها بالشعب المغربي، تحتفظ بحقها في اتخاذ جميع التدابير المناسبة بشكل مشروع للدفاع عن سيادتها الوطنية وأمن مواطنيها.
وعلى أية حال، أود أن أكرر ثقتي في جميع التدابير المناسبة التي ترى ضرورة اتخاذها للمساهمة في الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة دون المساس بتطبيق حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير .
سنوات الثمانينات.. انتفاضات في القبائل ونصائح مغربية للجزائر
كانت الجزائر بعد ذلك على موعد مع ما يعرف بالربيع الأسود، في مارس 1980، أو أحداث تيزي وزو، التي راح ضحيتها العديد من الأمازيغ، وعندما سئل الملك الحسن الثاني عما حدث في الجزائر، نفى أن يكون هناك صراع بين العرب والأمازيغ، وأكد أنه لا يريد أن يقدم تحليلا يؤول على أن ملك المغرب يتدخل في السياسة الداخلية للجزائر، وأشار إلى أن وضع المغرب مخالف جملة وتفصيلا عن الجزائر بخصوص علاقة العرب والأمازيغ.
ثم كانت الجارة الشرقية على موعد مع أحداث أخرى من جديد سنة 1988، عندما نددت نقابة الشركة الوطنية للسيارات الصناعية (سوناكوم) بالفساد، وقد ظهرت مناوشات بعدة أحياء في العاصمة الجزائرية، لتتفجر الأحداث حينما اعترضت مجموعة من الشباب وسط حي باب الوادي الشعبي، حافلة، وأنزلوا كل ركابها وأضرموا النار فيها، ثم توسعت الاحتجاجات في اليوم الموالي لتشمل العديد من الولايات أهمها تيزي وزو، واستهدف المحتجون كل ما يرمز للدولة الجزائرية، مثل المقرات الحكومية والأمنية، وتدخلت الدولة بقوة، ما أسفر عن مقتل أزيد من 120 شخصا حسب الإحصائيات الرسمية، ونحو 500 حسب نشطاء، كما تم اعتقال أكثر من 15 ألف شخص، ويوم 10 أكتوبر من السنة نفسها، ظهر الرئيس الشاذلي بنجديد على شاشة التلفزة الرسمية، ودعا المواطنين إلى التعقل، ووعدهم بإصلاحات سياسية واقتصادية.
أما رأي الحسن الثاني في هذه الأحداث، فقد حمل المسؤولية لنظام الحزب الواحد في الجزائر، لأنه تحول إلى حزب بوليسي .
وقد لقيت نصيحة الحسن الثاني صدى إيجابيا في الجزائر، فانطلاقا من تلك السنة، اعترفت سلطات البلد بالتعددية السياسية، حيث أظهرت السلطة بعض التسامح مع الحركة الثقافية الأمازيغية التي قادت الحركات الاحتجاجية، وفي العام الموالي، أسس سعيد سعدي، رفقة مناضلين من هذه الحركة، التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ، وهو حزب علماني معارض، ثم نظمت انتخابات نزيهة فازت خلالها الجبهة الإسلامية للإنقاذ ، قبل أن يتدخل الجيش ويفرض الأمر الواقع بوأد هذه التجربة في مهدها، وتدخل البلاد بعد ذلك فيما يعرف بـ العشرية السوداء .
لم تتم إثارة قضية القبائل بين المغرب والجزائر منذ ذلك التاريخ، حتى سنة 2021، عندما قام عمر هلال، السفير الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، بالرد، بشكل مفصل، على التدخل الاستفزازي لرمطان لعمامرة، وزير الخارجية الجزائري، خلال المناقشة الوزارية العامة في اجتماع حركة عدم الانحياز، والذي عقد بشكل افتراضي يومي 13 و14 يوليوز 2021.
ففي مذكرة وجهها إلى الرئاسة الأذربيجانية للحركة، ووزعت على جميع الأعضاء، أعرب الدبلوماسي المغربي عن استغرابه الشديد لاختيار الوزير الجزائري، الذي تطرق لموضوع قضية الصحراء المغربية خلال أول تصريح له في محفل دولي، منذ تعيينه على رأس دبلوماسية بلاده، مشددا على أن قضية الصحراء المغربية التي تندرج حصرا ضمن اختصاص مجلس الأمن الدولي، لم تكن مدرجة على جدول أعمال الاجتماع ولا ترتبط بموضوعه، وأبرز السفير هلال أن الغالبية العظمى من الوزراء، ركزوا في الواقع وبشكل حصري، على الجهود متعددة الأطراف لمواجهة التحديات العالمية الملحة، ولا سيما الانعكاسات الصحية والاجتماعية والاقتصادية لوباء كوفيد 19 .
وخلص الممثل الدائم للمملكة لدى الأمم المتحدة إلى القول بأن الوزير الجزائري، الذي يقف كمدافع قوي عن حق تقرير المصير، ينكر هذا الحق نفسه لشعب القبائل، أحد أقدم الشعوب في إفريقيا، والذي يعاني من أطول احتلال أجنبي ، مضيفا أن تقرير المصير ليس مبدأ مزاجيا، ولهذا السبب يستحق شعب القبائل الشجاع، أكثر من أي شعب آخر، التمتع الكامل بحق تقرير المصير .
وهكذا، فقد بنت الجزائر قرار قطع علاقاتها مع المغرب سنة 2021 على موقف المغرب من قضية القبائل، واليوم وقد بدأ مسلسل جديد وهو إعلان القبائل من فرنسا عن استقلالها عن الجزائر، لا شك أن هذه القضية ستأخذ أبعادا أخرى على المدى القريب والمتوسط، ومن الممكن أن تشهد منطقة القبائل بين الفينة والأخرى بعض التوترات، وفي حال حصل ذلك، فإن المتهم الأول سيكون من طبيعة الحال هو المغرب وليس أي بلد آخر، فكيف سيواجه المغرب هذه التهم ؟
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الأسبوع الصحفي

