عاد إلى واجهة الأحداث السياسية في شمال إفريقيا مؤخرا، موضوع المصالحة بين المغرب والجزائر، خاصة بعد حسم مجلس الأمن الدولي في موضوع سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية من خلال القرار رقم 2797، وهو ما ترفضه الجارة الشرقية علما أنها هي من بدأت بإغلاق الحدود صيف سنة 2021، رغم أن يد المغرب ظلت ولا زالت ممدودة لحكام الجزائر من خلال العديد من الخطابات الملكية، من أجل التوصل إلى حل يذيب جليد الخلافات، ويفتح صفحة جديدة بين البلدين وبين الشعبين الشقيقين.. لكن تعنت حكام قصر المرادية لا زال يخلق البلوكاج في مسار تصحيح ما تم كسره من مشترك بين البلدين..
تتداول العديد من المنابر الإعلامية، في الآونة الأخيرة، موضوع وساطة جديدة بين المغرب والجزائر لوضع حد للقطيعة بين البلدين، وذلك بناء على مبادرة ويتكوف ، وهي المبادرة التي وصفتها دوائر أمريكية بأنها محاولة لإعادة فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بعد القطيعة الدبلوماسية المستمرة منذ سنة 2021 ، لكن الأمور على أرض الواقع تؤكد استبعاد حدوث مصالحة، حيث جاء في تقرير بهذا الخصوص أنجزته مؤخرا مؤسسة كونراد أديناور الألمانية ومؤسسة الحكامة العالمية والسيادة ، أن احتمال التوصل إلى اتفاق سلام بين المغرب والجزائر قبل منتصف دجنبر الجاري، يبقى ضعيفا للغاية رغم الوعود التي قدمها المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي، ستيف ويتكوف، بشأن إمكانية تحقيق تقدم دبلوماسي في ظرف شهرين ، وحسب التقرير، فإن الجزائر ترفض الانخراط في هذه الوساطة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، بناء على رغبة الرئيس دونالد ترامب في فتح صفحة مع دولة الجزائر وبناء علاقات جديدة في شمال إفريقيا مبنية على تصفية الخلافات السياسية القائمة في القارة، وذلك وفق مستشار الرئيس الأمريكي وفريق عمله من أجل تعزيز مناخ العمل المشترك والاستثمارات الكبرى التي من شأنها الارتقاء بالعلاقات بين دول المنطقة والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما كان المغرب قد بدأ الاشتغال عليه من خلال خط أنبوب الغاز المغرب-نيجيريا، وأيضا مبادرة الأطلسي، التي من شأنها تغيير وجه المنطقة من خلال استثمارات ضخمة تشمل قطاعات حيوية..
وتطمح الولايات المتحدة من خلال مبادرتها تحقيق مصالحة بين الجزائر والمغرب، إلى تعزيز علاقتها الثنائية مع الجزائر، وبالتالي توقيع اتفاقات في مجالات التعاون الأمني وشراكات اقتصادية تقود البلاد إلى الاستفادة من الدعم داخل المؤسسات المالية الدولية، من أجل إخراج الجزائر من وضعيتها المالية الحرجة التي تعيشها في السنوات الأخيرة نتيجة سوء تدبير عائدات البترول والغاز، وكذا الإسراف في الإنفاق على جبهة البوليساريو من أجل حلم وهمي بتأسيس جمهورية في المنطقة، والذي يقدر بملايير الدولارات من مقدرات الشعب الجزائري..
وكان ستيف ويتكوف، مستشار الرئيس الأمريكي، قد صرح في برنامج تلفزيوني مؤخرا، بأنه يعمل على ملف المغرب والجزائر ، بعد أن تم حسم ملف الصحراء، الذي جعلت منه الولايات المتحدة، منذ اعترافها بمغربية الصحراء في شهر دجنبر 2020، قضية ذات طابع استراتيجي، يخضع حسابه اليوم لمنطق المصالح الكبرى لواشنطن في إطار توسيع نفوذها في القارة الإفريقية بعد تصاعد نفوذ روسيا في المنطقة، وهذا ليس موضوعنا الآن..
ففي خضم هذا الزخم والتحول الذي تعيشه المنطقة، وجد النظام الجزائري نفسه في حالة إفلاس سياسي غير مسبوقة، إذ فقد مدبرو الشأن الجزائري، داخليا وخارجيا، القدرة على صياغة استراتيجية دبلوماسية أو رؤية واضحة تخرج البلاد من حالة النكوص والتقهقر الذي يقود الجزائر إلى مراتب متأخرة في جميع المجالات، ولا أدل على ذلك من الأزمات القطاعية التي خرجت إلى العلن وتفاقمت نتيجة عدم قدرة النظام على استيعاب واحتواء المشاكل الداخلية المتراكمة، ولا القدرة على إدارة الأزمات لأنه في الأصل هو السبب المباشر في صناعتها وتفاقمها.
ومن جهة أخرى، فإن النظام الجزائري أصبح محاصرا بأزمات علاقته مع المغرب، وذلك لأنها اختارت الارتماء في حضن إيران رغم الخلافات القائمة بين نظام الملالي والمغرب، والتعاون مع حزب الله في تداريب عسكرية على الحرب من أجل الدفع بالبوليساريو إلى الحرب المباشرة مع المغرب، كما جرّ الرئيس عبد المجيد تبون الجزائر إلى الخلف منذ توليه السلطة شهر دجنبر 2019، في ظل الانقلاب على الحراك الاجتماعي وتكميم أفواه المحتجين على الأوضاع الاجتماعية، ولذلك خطّ الرئيس لبلاده مسارا نكوصيا لا زالت تداعيات السلبية مستمرة إلى اليوم على المواطنين الجزائريين، وعلى الدول المجاورة واضعا بذلك حجر عثرة أمام العودة إلى إحياء اتحاد المغرب العربي، وهو الذي قام منذ مدة بمحاولة تأسيس مغرب عربي بدون المغرب، وهي المبادرة التي فشلت رغم محاولة عبد المجيد تبون استمالة موريتانيا وتونس وليبيا، لكن دون نتيجة خاصة في ظل تناول تقارير دولية أخبارا عن قرب تصنيف جبهة البوليساريو منظمة إرهابية، وهي الورقة السياسية التي ظلت الجزائر تلوّح بها ضدا على المغرب في مختلف المحافل الدولية منذ عقود، ليأتي عبد المجيد تبون وزميله في تدمير الجزائر وخلق المشاكل في المنطقة، الجنرال السعيد شنقريحة، ويرسما مسارا قاتما للبلاد وللشعب الجزائري، رغم أن النظام العالمي الجديد يقوم على الشراكات الجيو-استراتيجية التي من شأنها الدفع نحو تطوير الاستثمارات التجارية للبلدان المنخرطة فيها، غير أن حكام الجزائر لهم رأي آخر.. فلا هم أخرجوا بلادهم من الأزمات الاجتماعية، ولا هم كفوا عن وضع أيديهم في الأزمات المشتعلة في شمال القارة وفي منطقة الساحل، وها هي البوليساريو، التي صنعها حكام الجزائر منذ سبعينات القرن الماضي، ضدا في المغرب، وكلفت حكام المرادية ميزانيات كبيرة جدا كان بالإمكان استثمارها لمصلحة الشعب الجزائري، وللدفع باتحاد المغرب العربي ليصبح قوة سياسية واقتصادية لها وزنها ليس في القارة فحسب، وإنما في العالم.. وأصبحت البوليساريو ورقة خاسرة، بعدما استطاع المغرب على مدى خمسين سنة من الصراع المفتعل، من انتزاع حقه في السيادة على كامل ترابه.
وفي إطار تصحيح مسار العلاقات بين البلدين الجارين، فقد عرفت هذه القضية عدة وساطات منذ حرب الرمال سنة 1963، من خلال مؤتمر باماكو، حيث قاد الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، الوساطة التي توجت بوقف إطلاق النار، غير أن الجزائر قامت بخرق الهدنة، وفيما يتعلق بقضية الصحراء، فقد تصاعدت الأزمة بين البلدين بعد أن تم تأسيس جبهة البوليساريو ودعمها من قبل الجزائر ودول أخرى، وتعمقت مع تنظيم المغرب للمسيرة الخضراء سنة 1975، فتدخلت دول عربية، منها مصر، كما تدخلت السعودية غير ما مرة للعب دور الوساطة، لكن سرعان ما تعود الأمور إلى نقطة الصفر، ولم تستطع الوساطات العربية حل المشكل بشكل جذري لأن الخلاف القائم يشمل نزاعات حدودية ورثها المغرب عن الفترة الاستعمارية، وقد سبق لـ الأسبوع أن تطرقت لهذا الموضوع في ركن ملف الأسبوع (عدد 12 يناير 2022، تحت عنوان: تفاصيل تاريخ الوساطة بين المغرب والجزائر).
ويسجل التاريخ عدة محاولات من قبل دول عربية لتقريب وجهات النظر بين المغرب والجزائر من أجل إعادة العلاقات بين البلدين، لكن القادة الجزائريين دائما يقللون من الحاجة للوساطة، كما هو الشأن بالنسبة لـ مبادرة ويتكوف التي تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية حاليا لحل الخلافات بين المغرب والجزائر، والتي لا تأخذها الجزائر على محل الجد، هذا في الوقت الذي لا زال فيه المغرب يمد يديه إلى الجزائر ويجدد دعواته إلى الحوار، منذ أن أقدمت الجارة الشرقية على إغلاق الحدود في وجه المغاربة سنة 2021، وفي سنة 2025، جدد الملك محمد السادس مرة أخرى دعوته إلى الأشقاء الجزائريين، في خطاب 31 أكتوبر 2025، والذي جاء فيه: ((أدعو أخي فخامة الرئيس عبد المجيد تبون، لحوار أخوي صادق بين المغرب والجزائر، من أجل تجاوز الخلافات، وبناء علاقات جديدة تقوم على الثقة وروابط الأخوة وحسن الجوار، كما نجدد التزامنا بمواصلة العمل من أجل إحياء الاتحاد المغاربي على أساس الاحترام المتبادل، والتعاون والتكامل بين دوله الخمس)).. لكن الجزائر لم ترد إلى الآن على هذه المبادرة..
وفي سياق الوساطة التي يقترحها الرئيس دونالد ترامب، فإن نجاحها إن تم حسب محللين سياسيين قد يفتح آفاقا واسعة للمنطقة تشمل تفعيل التكامل الاقتصادي المغاربي، وستعمل على تخفيف ضغوط الهجرة إلى أوروبا، ومن جهة أخرى تعزيز التعاون الأمني في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، غير أن الواقع حاليا هو غياب أي رد رسمي من الجزائر، وهو ما يجعل نسبة تحقيق مصالحة بين البلدين ضئيلة، رغم أن المصالحة سيترتب عنها ترميم ورتق العديد من الثقوب التي خلفها خلق كيان وهمي بهدف اقتطاع أجزاء من التراب المغربي.
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الأسبوع الصحفي

