من بين المفاهيم المتشابكة والمتداخلة في الحقل اللغوي والمعرفي، وبشكل خاص في العلوم الاجتماعية، مفهوما التغير و التحول ، وكثيرا ما يتم الخلط بينهما بقصد أو بدونه، والحال أن هناك فرقا شاسعا بينهما من حيث المعنى والدلالة، وحسب سياقات الاستعمال، رغم أن بينهما خيوطا ناظمة في كثير من الأحيان، ويمكن أن يلتقيا في أكثر من نقطة تقاطع، وأكثر من خط تماس، وإذا كان من الواضح أن المصطلحين لهما ارتباط بمجالات متعددة، كالمجال السياسي، أو الاقتصادي، فسنتحدث هنا عن ارتباطهما بالمجال الأكثر إثارة للجدل، وهو المجال الاجتماعي بمفهومه الواسع، باعتباره إطارا عاما يضم كل تلك العناصر أو المجالات، وذلك لتوضيح وتبيان أولا الفرق بين التغير الاجتماعي وما المقصود به؟ وثانيا التحول الاجتماعي وماذا يعنيه ؟
ويأتي هذا التمييز والتفريق بين المصطلحين وضرورته الملحة، لكشف النقاب عن مسألة أساسية وفي غاية الأهمية، لطالما توقف عندها الكثير من الباحثين والدارسين، واختلفوا حيالها، وهي هل كل ما عرفه المغرب تاريخيا من تحولات اجتماعية، والتي قد تعتبر في جزء منها، من إفرازات وتداعيات التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي عرفها، على اعتبار أنه من الصعب الفصل بين كل هذه المجالات نظرا للعلاقة المركبة التي تربطها؟ وهل يمكن أن ندخلها في خانة التغيرات، أم خانة التحولات، أم هناك أجزاء منها قد تدخل ضمن التحولات وأخرى ضمن التغيرات ؟
في قاموس العلوم الاجتماعية، يراد بـ التغيير الاجتماعي في مدلوله الشمولي، كل ما يطرأ على البنيات والهياكل والمؤسسات والتوجهات وأنساق القيم الاجتماعية من تبدل وتغير، كليا كان ذلك أم جزئيا، شكليا أم جذريا، تقدميا أو تراجعيا في شكل اختلالات وتأزمات أو في أنماط التجديد وإعادة الهيكلة والبناء، أما مفهوم التحول الاجتماعي، فيقصد به، باعتباره نمطا من التغير الاجتماعي، تبدلا جذريا يمس عمق مضامين وأسس ومكونات البنية الاجتماعية المتنفذة، كما أن هذا التحول قد يكون تلقائيا ناجما عن تفاعلات وتبادلات الأوضاع والعلاقات والمجالات والتوجهات الفكرية والقيمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وما يؤدي إليه من طفرات نوعية خاصة، بيد أن هذه التلقائية المعنية لا تقوم على أي منظور ميتافيزيقي أو غيبي لحركية تطور وتغير البناء الاجتماعي، بل إن البحث العلمي كفيل بمقاربة مختلف العوامل الموضوعية والذاتية، وتفسيرها وتأويلها عبر ربطها بشروط ومحددات الزمان والمكان، وقد يكون هذا التحول قصديا إراديا منخرطا فيما يتم اعتماده من مشاريع وسياسات وبرامج للإصلاح، كتجاوز مستديم لما تأزم واختل من الأوضاع والتصورات والمجالات، أو للتجديد الذي يستهدف بالأساس ما تقادم من البنيات والممارسات والمعارف والمقومات والقيم، وما ارتكن منها إلى الجمود والتكرارية ومجافاة كل تغير أو تحرر من أغلال الماضي، وكل توجه نحو المستقبل ونحو التجدد والتطور في الفكر والممارسة معا، أو مشاريع إعادة البناء والتشييد باعتباره إقامة لبنيان أو نسق جديد أو مجدد على أنقاض ما تهدم أو هدم من عناصر ومكونات اجتماعية، مادية كانت أو رمزية ..
والغاية من هذا العرض المقتضب حول هذين المفهومين، هي التذكير بغنى محمولاتها وطبيعتها الإشكالية المعقدة، لذا فإن التعامل معها بشكل إجرائي لا يصبح أكثر فاعلية ونجاعة إلا في إطار مقاربة ما، بشروط الزمان والمكان، والتي تختلف وتتباين وتتعدد حسب السياقات السوسيو-حضارية والتاريخية المتمايزة، وكذلك بربطهما بشكل دقيق بإشكالية التحولات السياسية التي عرفها المغرب على الأقل منذ الاستقلال إلى اليوم، والتي تتراوح في عمقها بين الإصلاح والتجديد وإعادة البناء، وبناء عليه، نعيد طرح السؤال المحوري: هل ما عرفه ويعرفه المغرب من تغيرات يمكن تصنيفه ضمن التحولات بمفهومها الشمولي والراديكالي، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تغيرات تتفاوت في مدى شموليتها وتأثيراتها وأثارها ؟
نستطيع القول، كما يؤكد ذلك الكثير من الباحثين والدارسين، أن تحولات الحقل الاجتماعي لم تفض في وضعية التبعية والتخلف والارتهان واقعا ومصيرا لسلطة وتوجهات وقرارات المراكز المهيمنة على المستوى الدولي، لا إلى تنمية شمولية، ولا إلى حداثة حقيقية ناظمة للفكر والممارسة بقدر ما أفضت إلى إفراز بنيات وممارسات ومؤسسات وعلاقات وتبادلات مادية ورمزية غريبة ومشوهة، على مستوى الأسرة والمدرسة، وقطاع الاقتصاد، وبنية الدولة، والمؤسسة الحزبية والتمثيل النيابي والسلوك السياسي، والعمل النقابي إلخ، ويتجلى ذلك في كون هذه المكونات، في الوقت الذي تتمظهر فيه بقيم ومواصفات التنمية والديمقراطية والحداثة، في الوقت الذي يشتغل فيه مضمونها بآليات لاعقلانية تكرس في زمن العولمة العديد من قيم ومسلكيات العلاقات القرابية والزبونية والقبلية، فضلا عن الرشوة والفساد واحتقار العلم والتعليم، والمعرفة والكفاءة، مما يتنافى كليا مع قيم الحداثة، من عقلانية وتنظيم وتثمين للمعرفة والاستحقاقية والدمقرطة، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، الأمر الذي أوقع المجتمع فيما يسميه البعض بـ الحداثة المستوردة مفتقدة لأي تجذر سوسيو-ثقافي عميق في واقعها المجتمعي الناجز بما له من خصوصيات نوعية متميزة، وهو وضع جعل الحقل السياسي والسوسيو-ثقافي العام يعيش مفارقات غريبة بين الخطاب والواقع، القول والفعل، المعتقد والممارس، أي بين قيم ومعايير ومعتقدات وتصورات لا يدعمها واقع ملموس، من جهة، ومن جهة أخرى بين سلوكيات وممارسات وأفعال ومواقف لا يسندها أي إطار مرجعي يحيل إلى ما يحمله الأفراد والجماعات من قيم وأفكار وعقديات ورؤى للعالم.
ولعل ما يفسر هذا الوضع المفارقي الفصامي، على الأقل في بعض جوانبه الأساسية، أن الكثير مما نستورده ونروجه من قيم الحداثة والعقلانية والتقدم والتجديد وغيرها، ولاعتبارات عديدة، لم تتبلور بعد كثقافة مجتمعية شمولية ناظمة للكلية الاجتماعية، مترسخة في الفكر والوجدان، مكتسحة مختلف مجالات وجوانب الممارسة السياسية والثقافية والاجتماعية العامة، لكن في المقابل، لا بد من القول أنه لم تكن هناك حركية في المجتمع المغربي على المستوى الحقل الاجتماعي عامة،
فصحيح أن هذه الحركية أو الدينامية لم ترق إلى مستوى الطموحات، لكنها أعطت إشارات قوية على أن المجتمع بكل قواه السياسية والثقافية والجمعوية والحقوقية، صارعت من أجل الكثير من المكتسبات، ويمكن استشراف مستقبل أفضل، فلا يمكن أن نبخس العمل الكبير الذي قامت به العديد من الأحزاب المغربية ومعها باقي الهيئات المدنية والسياسية الأخرى، على مر التاريخ، في النضال من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق وكرامة الإنسان، ومحاربة الأمية والفقر والتهميش الاجتماعي والفوارق الطبقية، والعمل على تحقيق تكافؤ الفرص والحظوظ الاجتماعية في ميادين الاستفادة من التعليم والصحة والسكن والشغل والتأمين والضمان الاجتماعي وصيانة حريات التعبير والرأي والتحزب والعمل السياسي والنقابي والجمعوي، وقد يبدو أثر ذلك في المجتمع غير مقنع وغير كاف، لكن يمكن أن تلعب دورا مهما من أجل التطور أولا، ثم من أجل تمنيع وتحصين وتقوية النسيج الاجتماعي وتنشيط حركية المجتمع، ودعم المسار الديمقراطي والحفاظ على وحدة الصف، وعلى التضامن الاجتماعي، ما ينتظر منه أن ينعكس إيجابا على مشاريع التنمية الاجتماعية بشكل عام.
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الأسبوع الصحفي

