الحقيقة الضائعة | مناورات الحزب الاستعماري الفرنسي لمحاصرة سلطان المغرب

تفاجأنا في الأسبوع بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة الحقيقة الضائعة التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

كان التحول الكبير في تاريخ المناورات الاستعمارية الفرنسية تجاه المغرب، فرصة لعدد من اليمينيين الذين كانوا يؤيدون احتلال المغرب، ولكنهم كانوا يتخوفون من طموحات العسكر الفرنسيين، فجعلوا من تلك الجلسة فرصة لتوجيه انتقاداتهم إلى الطريقة التي يتعامل بها اللوبي الاستعماري مع المغرب.

وارتفع صوت من اليمين قائلا: ((إن فرنسا بصدد ممارسة حرب ضد المغرب، ولكنها لا تستطيع الإفصاح عنها))، وانقض جان جوريس على الفرصة السانحة، وطالب المجلس بأن يتخذ قرارا عاجلا بسحب القوات الفرنسية من المغرب، لكن الأغلبية عادت لحنينها إلى التعابير الرنانة عن الأمجاد الفرنسية وحماية المصالح الفرنسية، واكتفى جوريس بتقديم مشروع يقضي بـ((إيقاف كل المخصصات المالية التي كانت مقررة للجيش الفرنسي بالمغرب)) (جروج أوفيد، اليسار الفرنسي والوطنية المغربية ، نشر في باريس 1984).

ونعود للتساؤل في خضم هذه المناورات التي اكتفينا في كشفها بسرد محاضر جلسات البرلمان الفرنسي: ما هو مدلول الحماية، أو وثيقة الحماية؟ وهل لها من مبرر غير إضافة وثيقة جديدة إلى ملف قديم ؟

جديد وقديم.. لأن القضية طالت، وكما اتضح من الجلسات الصاخبة السابقة وقد بدأت سنة 1908، والصراع استمر سنوات طويلة إلى ليلة إمضاء عقد الحماية .

ولم يكن السياسيون الفرنسيون من طينة جان جوريس صبيانا يلعبون، أو يتلاعب بهم أحد، فقد كانوا يتتبعون خطوات المناورات الفرنسية التي كانت تطبق في المغرب رغم النقاشات التي كانت تجري في البرلمان.

وكان جوريس يقرأ التقارير التي تطرقنا لها، وكان يشم رائحة التناور ويقرأ الرسالة من ظهرها، ويعرف أن هناك مخططا للتمويه على المغاربة، واغتصاب إرادة السلطان المولى عبد الحفيظ.. فعندما عرضوا على السلطان مولاي عبد الحفيظ تقديم الدعم له مقابل تسليمهم شؤون الأمن في نهاية سنة 1909، ذهبوا للبرلمان الفرنسي مطالبين بالموافقة على منح قرض للمغرب، أجابهم جان جوريس بقوله: ((إن هذا القرض داخل في تعقيدات يظهر لي أنها مجرد مناورات من طرف الحزب الاستعماري وحلفائه( )؛ فإذا فرضتهم على السلطان شروطا منهكة، فإنكم ستحرمونه من قوة حكم بلده، وبذلك تريدون اغتيال شعلة الأمل في استمرار هذه الدولة الصديقة، وتمنعون حرية سلطانها الذي سيفقد استقلاله الاقتصادي، وبالتالي كل مقومات حكمه تجاه الشعب المغربي نفسه)).

واستمرت المناقشات في باريس، والمناورات في فاس، والخناق يضرب على السلطان باسم الأزمة الاقتصادية، وورقة الحماية في جيب أحدهم تنتظر الفرصة المناسبة للتلويح بها، وبصيغة أخرى، كان المخطط الجهنمي الذي كلما زدناه وصفا، زادنا معارضو هذه الحقائق اتهاما بالمغالاة، لذلك نكتفي بالشهادات الفرنسية وحدها.

ونرجع للصحافة، وقد كانت على مر الدهور والأزمان المرجع الصحيح والسند المسنود، ونقرأ المخطط التناوري كما فهمه أحد الصحفيين وكتبه في جريدة لاديبيش دو تولوز (بتاريخ 8 مارس 1911)، سنة قبل إمضاء الحماية ، وفيها كتب الصحفي: ((إن السلطان عبد الحفيظ وقد غلب بواسطة سلسلة من الإنذارات، وفقد كل مصادره الطبيعية، ولم يبق له لكي يعيش ليومه إلا أن يفرض الضرائب على القبائل، وبذلك تزداد الكراهية له ضخامة، لدرجة يضعف معها بعد أن يكون قد افتقد القوة والإمكانيات التي يفرض بها النظام)).

وهذه الصورة الموضحة لمخطط المخابرات الفرنسية التي كان القنصل الفرنسي في فاس، كايار، عنصرها المحرك، فكان يدخل عند السلطان ليستكنه ميزان حرارته السياسية والاقتصادية، ثم يخرج ليرسل تقريرا إلى باريس من صنف التقرير التالي: ((إن السلطان قد طال انتظاره لعودة الوزير المقري من باريس، المكلف بالمفاوضات مع فرنسا في الشؤون المالية، وكان مقررا أن يعود المقري بالجواب منذ أسابيع، ولكن الانتظار طال الآن أربعة شهور( )، وقد نتج عن هذا كما قال لي السلطان أن خزائن الدولة قد فرغت واضطر المخزن أن يضيق الخناق على القبائل، وهو شيء لم يكن يرغب فيه)) (وثائق الخارجية الفرنسية، برقية رقم 237 / بتاريخ 11 مارس 1911).

فماذا تكون نتائج هذا الوضع على وطن محتلة جل أطرافه ؟

إن المخطط كان واضحا: تحريك بعض القبائل العميلة لتهديد فاس، واضطرار السلطان لمطالبة الفرنسيين بالتدخل لحمايته.

ويجيب النائب جان جوريس في البرلمان: ((لا.. ليس من حق الجيش الفرنسي أن يتدخل، لأن هذا معناه تنفيذ المناورة، وستكون النتيجة أن نفقد نفوذ العاهل المغربي، الذي سيفقد رصيده وكرامته أمام شعبه إذا ما دعا الأجانب إلى حمايته)).

لكن المخطط المرسوم كان أكبر من أن يتم التراجع عنه من طرف برلمان تحكمه أغلبية اسمها لو بّارتي كولونيال (الحزب الاستعماري)، أو بصيغة أخرى، فإن المؤامرة كانت أضخم من البرلمان الفرنسي.

ودخلت القوات الفرنسية لفاس، ولم تسمع لنصائح السياسيين، فائتمرت بأمر العسكريين، وستعرف أي منقلب انقلبت فيه الفصول اللاحقة.

وهب وزير الخارجية الفرنسي، كروبي، لتغطية الغلطة بتصريحه: ((إن فرنسا ستبقى حريصة على الوحدة الترابية للإمبراطورية المغربية تحت حكم السلطان)).

وقال المؤلف الفرنسي جورج أوفيد، صاحب كتاب: اليسار الفرنسي والوطنية المغربية ، واصفا إحراج وزير الخارجية الفرنسية وهو يبرر دخول الجيوش الفرنسية لفاس: ((لقد بذل وزير الخارجية كروبي مجهودا كبيرا ليجعل الجميع يعتقد أن السلطان هو الذي طلب دخول القوات الفرنسية))، واستعمل المؤلف الفرنسي التعبير التالي الذي يجرد قائله من كل مصداقية: Il s efforce de d montrer.

أخطر تصريح للسلطان عبد الحفيظ؛ هذا السلطان الذي سميته سلطان الجهاد، هل من حق أحد أن يتهمه بعد كل ما قيل وما نشر، بأنه استدعى الفرنسيين للدخول إلى المغرب، أو أنه أمضى عقد الحماية.. ؟

لنتمعن في تحليل آخر للمناورة التي حاكها الفرنسيون لوضع سلطان الجهاد أمام الأمر الواقع؛ لقد كانت جلسة البرلمان الفرنسي يوم 16 جوان 1911 كما سجلتها الجريدة الرسمية الفرنسية في صفحتها رقم 2425، صاخبة، مكهربة بأزمة الضمير الفرنسي، وفيها حاول وزير الخارجية كروبي إقناع الحاضرين بأن السلطان هو الذي طلب دخول الفرنسيين، فسخر جان جوريس من وزير الخارجية على الطريقة الفرنسية، وقال له: ((نعم، إنه هو الذي طلب دخولكم، لقد سمعنا)) (Oui, il l a demand c est entendu)..

وأضاف النائب الاشتراكي التصريح التالي، الخليق بأن يسجل في ذاكرة كل مغربي يخامره شك في هذا الموضوع الشائك، وقال جان جوريس: ((إني أرفض إطلاقا أن أصدق أن السلطان مولاي حفيظ طلب حماية فرنسا، والتنازل بذلك عن مسؤوليته كملك للمغرب، ولكني جازم بأن الأمر إنما هو نتيجة حتمية لمخطط مرسوم يستهدف إكراه السلطان على هذه الخطوة))، وأضاف هذه الرواية التي لم ترد من قبل في أي سرد تاريخي عن حياة السلطان عبد الحفيظ: ((لقد علمت أنه منذ ثلاثة أشهر ونصف، قبل أن تنفجر هذه الأزمة، نادى السلطان مولاي حفيظ على قنصلنا العام بفاس، المسيو كايار، وقال له بالحرف: ماذا تريد فرنسا أن تصنعه بي؟ لقد انتزعت مني كل شيء واحتلت أطرافا من مملكتي، واستولت على كل مصادري، ولا أستطيع شيئا، ومهما كان عجزي، ورغم أنها جردتني من كل إمكانيات التحرك، فإنها تستعد الآن لتحميلي مسؤولية كل الفوضى الحاصلة، إنني في قبضتكم، لقد جردتموني من كل سلاح فاعملوا بي ما تشاؤون))، وأضاف جان جوريس: ((إذا كنتم تعتبرون هذا مناشدة لفرنسا لتنفيذ الحماية، فإني أرى في موقف السلطان هذا أسمى شكل للاحتجاج من طرف الرجل، الذي قهرناه لدرجة التعجيز المطلق)).

فمن منا، نحن المتهمين بتاريخ المغرب، اطلع على هذه الجزئيات المثبتة في الجريدة الرسمية الفرنسية وحدها؟ من منا قرأ هذا الواقع الرهيب في مذكرات ليوطي مثلا، وهو الذي كان ينتظر الساعات والدقائق للدخول إلى المغرب لتنفيذ البرنامج العسكري والاستعماري؟ ومن منا قرأ هذه البيانات في هذه المجموعة من الكتب الصادرة عن هذه الفترة ؟

لا أحد بالطبع.. فإن الأقلام وقتها كانت مسخرة للطعن لا للكتابة، للقدح في شخصية المغرب لا لتسجيل الوقائع بأمانة الكاتب، وأي أمانة ترجى من ضباط عسكريين فرنسيين كانوا يلعبون دور المراسلين الصحفيين، أو المؤرخين الاستعماريين.. ؟


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الأسبوع الصحفي

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الأسبوع الصحفي

منذ 3 دقائق
منذ 5 ساعات
منذ 10 ساعات
منذ 9 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 7 ساعات
هسبريس منذ 7 ساعات
هسبريس منذ 5 ساعات
جريدة أكادير24 منذ ساعتين
جريدة كفى منذ 12 ساعة
هسبريس منذ 5 ساعات
هسبريس منذ 9 ساعات
هسبريس منذ 10 ساعات
صحيفة الأسبوع الصحفي منذ ساعتين