((لم تعد كرة القدم لعبة فرق، وفرجة مجتمع، كما أن انتصارات الفرق وهزائمها لم تعد حبيسة الرياضيين والوسط الرياضي، وإنما غزت هذه اللعبة مختلف مناحي الحياة؛ فقد أصبحت كرة القدم، منذ زمن، قضية دولة، لا تؤثر في الاقتصاد والإعلام والسياحة فقط، وإنما تفعل فعلها في السياسة الوطنية، وفي العلاقات الدولية، وفي المنظمات والبنيات، كما في السلوكيات والتفاعلات السياسية)).
إعداد: سعيد الريحاني
الكلام أعلاه هو مقتطف من تشخيص واقعي لباحث مرموق، هو الدكتور محمد الرضواني، مدير مختبر الدراسات القانونية والسياسية لدول البحر الأبيض المتوسط (كلية الناظور)، وكان هذا الباحث قد اختار تنسيق مجهود كبير لمجموعة من الباحثين داخل مؤلف كبير تحت عنوان: كرة القدم والسياسة/ دراسة في السلطة والهوية والاحتجاج)، وهو الكتاب الذي صدر مؤخرا، ليوفر مساحة أخرى للتفكير في ظاهرة كرة القدم من زوايا مختلفة.
يقول الباحث الرضواني في تقديم المؤلف المذكور: ((لم تعد كرة القدم، منذ عقود، محكومة بقواعد اللعب والفرجة فحسب، وإنما أضحت لعبة خاضعة للتنظيم والتدبير والتأطير والتوجيه، ليس فقط على مستوى إجراءات اللعب وتقنياته، وقواعد تنظيم الفرق، وإنما كذلك على مستوى أهداف لعبة كرة القدم، وشروط تنظيم البطولات واللقاءات الكروية، وخلفياتها السياسية والإيديولوجية. كما أن كرة القدم لم تعد لعبة محكومة بالتلقائية والممارسة والتعبئة والعواطف فقط، وإنما أصبحت تنظيما خاضعا للحسابات الرياضية والإحصائية والاقتصادية، تستحضر كلها منطق الربح والخسارة، ليس الربح في المقابلات، وإنما الربح المادي والاقتصادي بالدرجة الأولى، ينضاف إلى ذلك الربح السياسي)).
نفس الكاتب يعود للتاريخ ليقول: ((برزت النسب المتشابكة والمعقدة بين كرة القدم والسياسة، بشكل واضح، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، من خلال تنظيم بطولات دولية، وألعاب أولمبية، بمشاركة عدة منتخبات وفرق وطنية، مع ما يعنيه ذلك من صراع الأوطان والشعوب والأجناس؛ فانطلاقا من عام 1930، تاريخ انطلاق بطولة كأس العالم لكرة القدم من الأوروغواي، أصبح التوظيف السياسي مصاحبا لأغلب البطولات العالمية والقارية، ليس فقط من قبل الأنظمة الديكتاتورية، التي تتقن استثمار مثل هذه البطولات من أجل تلميع صورتها، والتغطية على انتهاكاتها، ونشر سياساتها، كما فعلت الفاشية الإيطالية، والنازية الألمانية، وديكتاتوريات أمريكا اللاتينية، وإنما كذلك من لدن الأنظمة الديمقراطية، التي تحرص على تقديم النجاح في تنظيم التظاهرات الرياضية العالمية بوصفه إنجازا للحكومة ومكوناتها، ففوز فرنسا بكأس العالم سنة 1998، اعتبر بمثابة انتصار لفرنسا متعددة الهويات، على اعتبار أن منتخبها القومي ضم عددا من اللاعبين ذوي الأصول الإفريقية)) (المصدر: كتاب كرة القدم والسياسة ).
ولا يقف توظيف كرة القدم عند الأنظمة، بل يمتد للسياسيين، حيث يقول الرضواني: ((يتم توظيف كرة القدم في السياسة كذلك، من قبل القوى السياسية والمدنية غير الرسمية، والنخب السياسية؛ ذلك أن عددا من الفرق الرياضية اعتبرت واجهات لمناهضة نظام الحماية والاستعمار في عدد من الدول، كما اتخذت الأندية الرياضية، في بعض البلدان غير الديمقراطية، مشتلا للتربية السياسية، ونشر قيم الالتزام بالقومية المحلية والانتماء، وتدعيم الهوية الخاصة. ثم إن النخب السياسية لطالما نظرت إلى الانخراط في الأندية الرياضية بصفة عامة، وأندية كرة القدم على وجه الخصوص، بوصفه استثمارا سياسيا ناجحا في حشد الجماهير الرياضية، وتعبئة الأصوات الانتخابية.. ومما لا شك فيه أن العلاقة المتشابكة بين كرة القدم والسياسة لا تتأسس على التشابه بين الميدانين، والتقارب القائم بينهما في الدولة الحديثة فقط، وإنما تتأسس أيضا على تحكم الدولة في الرياضة، واعتبارها مجالا خاضعا للسياسة وسلطتها، وتزايد وسائل حكم الدولة، المادية والرمزية، وتكثيف أدوات الهيمنة غير المباشرة)).
كرة القدم والسلطة
داخل هذا المؤلف الجماعي، يقول باحث آخر، هو أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية، عثمان الزياني، أن ((مختلف الأنظمة السلطوية عملت على الاستثمار في كرة القدم في سبيل تعزيز الطاعة العمياء، وفقدان الحرية، والقبول الرضائي السعيد بالتسلسل الهرمي المطلق، والنظام الأبوي، وما شابه ذلك، مما شكل مصدر قلق دائم، إذ تحولت كرة القدم إلى أداة لممارسة السياسة، وتنظيم الوجود الاجتماعي، وتصور الأهداف العامة، ليس على أساس المنطق والإقناع، ولكن من خلال مخاطبة الغريزة والشعور والخيال، لصالح جاذبية القائد المغناطيسية))، ويستند الكاتب على إغناسيو راموني، ليؤكد ((كيف اعتقد الفاشيون أن كرة القدم جعلت من الممكن في فضاء يفضي إلى تنظيم حشود كبيرة، ممارسة ضغط قوي عليهم، والحفاظ على النبضات القومية للجماهير.. وهكذا، فإن كرة القدم وغيرها من الرياضات الجماهيرية توصف بأنها الأفيون الحقيقي للشعوب، إذ في زمن الديكتاتوريات أصبحت المخدر الصعب للديمقراطيات! ثم إن رياضة كرة القدم في الأنظمة السلطوية، يزداد صبيب استغلالها واتخاذها كملهاة للجماهير والشعوب بهدف صرف أنظارهم عن الواقع المعيش بما يحويه من مشاكل وتعقيدات حياتية لمختلف الأفراد، حيث يكون الرهان هنا على إحكام القبضة الحديدية على الشعوب في سبيل تكريس المنطق السلطوي للحكم، الذي يشكل القائد الكاريزماتي، بموجبه، قطب الرحى، الذي تتحرك في كنفه كل مؤسسات الدولة والأفراد على حد سواء، وفق السياقات الأمرية والقسرية التي تحمل في ثناياها جملة من الموانع والمحاذير والممكنات، وكل ما هو مسموح به أيضا، وبالنظر إلى أن كرة القدم لعبة جماهيرية، استطاعت أن تأسر قلوب الملايين. وعليه، فهي تشكل أجدى استثمار للهيمنة والسيطرة وبسط مختلف مقومات السلطوية)) (المصدر: نفس الكتاب).
كرة القدم والحالة المغربية
يقول الباحث محمد زهني، ضمن نفس المؤلف، الذي حمل معلومات كبيرة عن رياضة كرة القدم، أن ((الرياضة أصبحت اليوم عنصرا محوريا في تسويق صورة المغرب على الساحة الدولية، وهو إنجاز لم يكن ليتحقق لولا الإصلاحات العميقة التي قادتها السلطة السياسية في البلاد، والتي أثمرت نتائج مشرفة على المستوى العالمي، ومنها الرعاية الملكية للرياضة))، حيث يؤكد بالاعتماد على كتاب الجغرافية السياسية للرياضة في المغرب ، أن الملوك المغاربة يولون أهمية كبرى لدعم الرياضة من خلال توجيهاتهم وتعليماتهم، منذ الملك محمد الخامس والملك الحسن الثاني، غير أن الدعم البارز والواسع هو الصادر من محمد السادس كملك معروف بممارسته لأنواع رياضية، كالتزلج على الماء والكاراتيه وشغفه بكرة القدم.
بل إن الاهتمام الملكي بالرياضة وصل إلى حد دسترتها حسب نفس الكاتب سالف الذكر، والذي قال: ((إن الاهتمام الكبير التي أولته السلطات العليا للرياضة والتربية البدنية، ستقود إلى دسترة الحق في الرياضة في دستور 2011، حيث ينص الفصل 26 على: تدعم السلطات العمومية بالوسائل الملائمة، تنمية الإبداع الثقافي والفني، والبحث العلمي والتقني، والنهوض بالرياضة، كما تسعى لتطوير تلك المجالات وتنظيمها بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية ومهنية مضبوطة .
كما ينص الفصل 31 على: تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة، من الحق في: التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية (بالإضافة إلى فصول أخرى))).
دبلوماسية كرة القدم المغربية
من جهته، وداخل نفس المؤلف الذي تقرأ الأسبوع مقتطفات منه، يقول الحسن أحكيم، الباحث في القانون العام: ((سيظل تفضيل العديد من أعضاء الفيفا لجنوب إفريقيا لتنظيم كأس العالم 2010 نتيجة خلفيات سياسية، لعب فيها نيلسون مانديلا دورا مؤثرا وغير ديمقراطي، راسخا في أذهان السياسيين والجماهير المغربية. ومنذ تلك اللحظة، شرعت السلطات العليا في المغرب في تحديث البنية التحتية الرياضية، وخاصة على مستوى كرة القدم: تم تعزيز أكاديمية محمد السادس لكرة القدم المتخصصة في تدريب اللاعبين من الطراز العالمي، واستقطاب أطر كروية خبيرة، مما شكل دافعا للأندية الوطنية واللاعبين الناشئين، وبالتالي، سيظهر نجاح هذه المؤسسة في نتائجها، سواء على مستوى اللاعبين المحترفين في أوروبا الذين تم تكوينهم داخل الأكاديمية، أو عبر تزويد المنتخب الوطني بعدد من اللاعبين: ثلاثة في كأس العالم 2018 في روسيا، وأربعة في كأس العالم 2022)) (المصدر: كتاب كرة القدم والسياسة ).
نفس الكاتب خصص التفاتة لفوزي لقجع، من باب التأثير القاري لكرة القدم المغربية، حيث قال: ((منذ توليه رئاسة الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم في 13 أبريل 2015، انخرط فوزي لقجع في استراتيجيات رياضية ودبلوماسية لتعزيز تمثيلية المغرب في الأجهزة الرياضية الدولية والقارية. في سنة 2017، انتخب المغرب لعضوية اللجنة التنفيذية للاتحاد الإفريقي لكرة القدم، وتولى منذ مارس 2021 منصب نائب رئيس الكاف ، كما تولى رئاسة لجنة الميزانية في الاتحاد الإفريقي لكرة القدم في نفس الوقت، وفي أبريل 2022، تم تعيينه من قبل رئيس الكاف في مجموعة العمل الخاصة باللجان التابعة لـ الفيفا ، وهي الهيئة التي تتولى مهمة تحليل الإطار القانوني والحكامة وتقديم المقترحات إلى مجلس الفيفا .
إن مهام فوزي لقجع في الاتحاد الإفريقي قد مكنت المغرب من تحييد جميع محاولات خصومه في القارة الإفريقية على مستوى كرة القدم، كما عززت موقع المغرب الكروي في القارة، ولم يعد المغرب ذلك البلد الذي يغيب عن تمثيلية الأجهزة الكروية الإفريقية)).
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الأسبوع الصحفي

