بويبلان في زمن المغرب

سواء خلال عقود القرن التاسع الميلادي الأخيرة أو زمن الحماية الفرنسية على البلاد، توجهت عناية دارسين سوسيولوجيين وأنتروبولوجيين أجانب ومعهم عسكريين استخباراتيين ومستكشفين، صوب ما هو بنية ونمط عيش وذهنيات وعقليات.. طبعت المجتمع المغربي. ويسجل أنه بقدر ما كانت عليه تقارير هؤلاء من خلفية ثقافية وسياسية ونظرة فوقية غير خافية، بقدر ما كانت بأثر وفائدة يصعب القفز عليها لِما جمعت من معطيات وما كشفت من جوانب كانت مغمورة، فضلا عما ترتب عن تقارير هؤلاء من نصوص حول هذا وذاك من قضايا مجتمعية مغربية وظواهر ومكونات. ولعل ما أحيطت به القبيلة المغربية إن من قبل هؤلاء أو عبر ما أسهم به باحثون مؤرخون مغاربة فيما بعد (جرمان عياش..)، أبان على أنها كيان وهوية وفِرق ومجموعات، يؤطرها وجدان وشعور بانتماء وقرابة ورابطة، ناهيك عن موطن ومجال ترابي بمعالم واضحة جامعة بين ضيعات زراعة وغابة ورعي وسوق جامع وحياة إنتاج وتفاعل بين القبيلة الواحدة وبينها وبين جوارها، دون نسيان ما طبع القبيلة من إرث ثقافي وجوانب روحية ومواعيد وتقاليد ومن ثمة من ذاكرة جماعية. هكذا كانت القبيلة المغربية ولا تزال بوقع ونسيج اجتماعي وبنية ونمط معيش وتركيب بيني علائقي وهوية وجوار وتعايش وضوابط تنظيمية ومجال، بالجبل والسهل والساحل والداخل والصحراء.

عن فسيفساء المكون القبلي المغربي بمجال أعالي إيناون، ارتأينا من خلال هذه الورقة بعض الضوء حول بادية مغربية جبلية منفتحة على ممر تازة من جهة الجنوب، ويتعلق الأمر ببادية قبيلة بني وراين. ولعل ما شهدته قبائل أعالي إيناون عموما من تقلبات عبر الزمن منذ العصر الوسيط، كان بأثر على ما كان قائما بها من مكونات منذ هذه الفترة، من قبيل قبيلة صدينة وبني مكود وغياتة وسدراتة..، وعلى ما ظهر بها لاحقا من قبيل قبيلة بني وراين، فضلا عن اختفاء أخرى من قبيل قبيلة بني وريثن، ما يعني كون قبائل هذه الأعالي كانت بنوع من الاستمرارية في تشكيلها وكذا من الانقطاع. ويسجل أن هذا وذاك من البنية والتركيب ينضاف لِما هناك من صعاب بحث ودراسة، تخص تاريخ قبائل هذا المجال الفاصل بين شرق البلاد وغربها، فضلا عن قلة ما كتب عنها خلافا لِما أحيطت به مدن وزوايا وأسر وأنساب. باستثناء ما حصل من حركية قبلية زمن القرن الثالث عشر والرابع عشر الميلادي، وقد سجلها المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون.

وعن مشهد أعالي إيناون القبلي يسجل ما هناك من اختفاء وتشتت، بحيث فضلا عن قبيلة بني مكود زمن دولة الموحدين مثلا، نجد قبيلة بني واريثن التي لا يعرف عن مصيرها أي شيء. وقد وردت في “أخبار المهدي بن تومرت..”، في حديث عن حصون أقامها المرابطون في مواجهتهم للموحدين، وعندما وردت ضمن إشارة لـ”الفلاج من بني وريثن”، ولعل الفلاج اسم واد واسم عين ايضا، لا يزالان يحملان الاسم نفسه على الحدود ما بين قبيلة بني سادن وبني وراين. كما وردت قبيلة بني واريثن في مصادر وسيطية، في حديث عن انتمائها للصنهاجيين الذين دخلوا فاس فارين من الفتن، وفي حديث آخر عن ترحيل المرينيين لجزء منها إلى مراكش وما حصل من اندماج مع قبيلة إينولتان. مع أهمية الإشارة أيضا لِما ورد حول موطن بني واريثن شرق فاس خلال القرن السادس عشر الميلادي. هكذا يبدو أن من قبائل هذه الأعالي من اختفى وتشتت ومنها من ظهر، وعند مراجعة موطن بني واريثن وكذا بني مكود المختفيتان، نجدهما تشتركان في وجودهما بجنوب مجال أعالي إيناون. الذي ظهرت به قبائل جديدة من قبيل بني وراين، التي شهدت توسعا على مستوى السفح الشمالي الغربي للأطلس المتوسط، بالجزء الذي يدخل ضمن مجال أعالي إيناون. وهو التوسع الورايني الذي حصل أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، والذي تكاد تجمع عليه المصادر.

حول قبيلة بني وراين، يمكن التمييز مجاليا بين قسمين ما يعرف بـ”أغربيين” (غرابة) ثم ما يعرف بـ”أشرقيين” (شراقة)، ومن الدراسات التاريخية الحديثة من تذكر أنها كانت بمزيج سكاني أمازيغي وأحيانا متمزغ، وأن توسعها وزحفها صوب الأسافل حيث الخصب والسهل لم تميز فيه بين أمازيغ وعرب. مع ما يستشف من وثائق القرن التاسع عشر الميلادي، خاصة منها الرسائل المخزنية التي يظهر منها أن القبيلة كانت مستعدة دوما لإيواء وحماية فرق عن قبائل مجاورة، إثر ما كان يحصل مع المخزن لهذا السبب أو ذاك. ولعل مرتفعات الأطلس المتوسط الشمالي الشرقي التي توجد جنوب ممر تازة، هو المجال الذي تستوطنه القبيلة والذي يجمع بين قسم غربي وآخر شرقي يفصل بينهما جبل بويبلان. بحيث يشمل القسم الغربي (بني وراين الغربية) أعالي واد سبو وإيناون حيث صفرو وتازة، وتحده من الشمال قبيلة غياتة وغربا قبيلة بني سادن وجنوبا قبيلة بني يازغة، أما شرقا فنجد قبيلة آيت جليداسن والتي تعد القسم الشرقي لبني وراين (بني وراين الشرقية)، حيث أعالي واد مللو وملوية التي تنتمي ترابيا لإقليم جرسيف. وفي ما يتعلق بأصول القبيلة وما قد يكون بإشارة وعلاقة، نجد ما ورد عند ابن خلدون من حديث عن انتماء لصنهاجة عندما ذكرهم بـ”بني وارث” قائلا: “وأما بطون صنهاجة فكثيرة فمنهم باكانة وأنجفة وشرطة ولمتونة ومسوفة وكدالة ومندلسة وبنو وارث وبنويتين”. فهل بنو وارث هنا هي بإشارة لقبيلة بني واريثن التي وردت في مصادر مغربية وسيطية عدة، وقد اختفت من أعالي سبو وإيناون منذ العصر الوسيط زمن الموحدين. أم هي بإشارة لقبيلة بني وراين الحالية التي تسكن جبال تازة من جهة الجنوب، والتي تتكون من فرق عدة متباينة من حيث عدد سكانها وأهمية مجال امتدادها، بحيث تعد بني وراين الغربية الأهم من حيث سكانها وأهمية موارد مجالها مقارنة بـ: بني وراين الشرقية. وحول ما لا يزال قائما من سؤال يهم أصول القبيلة، من الرواية الشفوية ما يقول بأن أصل بني وراين من ناحية فكيك، وأنها اتجهت تدريجيا صوب شمال غرب أعالي الأطلس المتوسط حيث بويبلان ووادي تنكرارامت، المجال الذي استوطنته لمدة قبل نزولها وتوسعها على مستوى أسافل المنطقة أو ما يعرف ببلاد” لوطا”. وكان من أسباب زحفهم من الجبل الى السهل، ما تلقوه من طلب مساعدة ونجدة من قبل قبائل كانت تستوطن هذه الأسافل ومنها قبيلة آيت سغروشن، إثر ما كانت تعانيه هذه الأخيرة من ضيم قبائل مجاورة، واحتقار واستغلال مخزني أيضا (قصة قائد يهودي).

إشارات مصدرية حول أصول قبيلة بني وراين وروايات حول انتمائها وتوسعها المجالي من الجبل إلى السهل، تبقى بأسئلة عدة إلى حين ما ينبغي من دراسات تاريخية وعمل توثيق وتدقيق لتتبع مسار ما ورد حول انتقال القبيلة من ناحية فكيك إلى جبل بويبلان. وكذا تاريخ زحفها نحو الأسافل حيث غرب وشرق تازة، وهو التوسع الذي يقدر بحوالي مائتي سنة من الآن أي منذ تقريبا مطلع القرن التاسع عشر الميلادي. ويسجل أن من أسباب هذا الزحف المجالي فضلا عما سبقت الإشارة إليه، ما ارتبط بحاجيات السكان في جبل بموارد محدودة مقارنة بما هو كائن ببلاد “لوطا”. وعليه يرى بعض الدارسين ممن توجهوا بعنايتهم البحثية للمنطقة، أن وضع بني وراين الديموغرافي خاصة بقسمها الغربي “أغربيين”، كان من العوامل التي دفعت بها للتوسع بحثا عن مجال حيوي أفضل، حيث الخصب والمياه والتربة والأراضي الممتدة الزراعية. علما أن حياة القبيلة بالجبل كانت تقوم على زراعة محدودة جدا بأشرطة محدودة على ضفاف أودية، فضلا عن اعتمادها نمط حياة ترحال (انتجاع) من أجل الرعي بين الجبال وأعاليها. ولعل تربية الماشية بهذا النمط كان ولا يزال من أنشطة القبيلة الرئيسية، ضمن رحلة شتاء وصيف بين جبل وسهل ومن الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي. هكذا كان بني وراين يقضون فصل الشتاء ضيوفا لدى الحياينة وبني سادن..، ويقضون الصيف في أودية جبلية بالأعالي ضمن تجمعات صغيرة. وهذا الترحال الموسمي لدى القبيلة كان بأثر فيما حصل من احتكاك وتقارب بين فرق قبائل مستوطنة لهذه الأسافل، فضلا عن صراعات ومجابهات بين هذه المكونات حول موارد العيش، علما أن الأرض كانت من هواجس بني وراين لقضاء فترتها الشتوية بهذا المجال من إيناون، ومن ثمة رغبتها في السيطرة والزيادة فيها كبديل مجالي لها. ويسجل أنه خلافا لمجال بني وراين الشرقية، حيث انتشار الجفاف وقلة الأراضي الصالحة للزراعة، تميز مجالها الغربي بالخصب ووفرة المياه ومن ثمة شروط عيش ملائمة واستقرار، فضلا عن زراعة وتربية للماشية. وحول ما يتعلق بالسكن لدى القبيلة، كانت تعتمد في بناء بيوتها على الطين المدكوك بمناطق جبلية وما كان يجلب من حجر من الأودية، فضلا عما كان يوضع من جذوع أشجار على سطوح البيوت قبل تغطيتها بالتراب. اما خلال فترة الانتجاع، فقد كانت القبيلة تعتمد خياما من صنع محلي معتمد على صوف غنم وشعر ماعز.

من حيث ما هو سوسيوثقافي لدى بني وراين، يسجل ما كانت ولا تزال تتقاسمه مع قبائل مجاورة لها، من تقاليد وعادات وطقوس من قبيل ما يصاحب العملية الفلاحية منذ إعداد الأرض وتهيئتها ثم حرثها وبذرها، مرورا بما هناك من عناية بها وحماية من آفات طبيعة، حتى تحقيق المحصول وبلوغ موسم حصاد ودراس. ويتبين من خلال هذا وذاك من الرمزي المشترك بين القبيلة وجوارها، أنه لم يكن هناك فرق بين قبائل عربية وأمازيغية بهذه الأعالي، وأن ما هناك من تقاليد ونمط عيش وتقاسم، هو إرث جمعي ضارب في القدم. وفي هذا الإطار من المفيد الإشارة إلى أن قبائل أعالي إيناون ومنها بني وراين الغربية، كانت تلتقي في عدد من أوجه.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من هسبريس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من هسبريس

منذ 29 دقيقة
منذ 5 ساعات
منذ ساعتين
منذ ساعة
منذ ساعة
منذ ساعتين
بلادنا 24 منذ 15 ساعة
هسبريس منذ 17 ساعة
هسبريس منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 20 ساعة
هسبريس منذ 17 ساعة
هسبريس منذ 19 ساعة
العربية - المغرب العربي منذ ساعتين
العربية - المغرب العربي منذ ساعة