في لحظات الكوارث، لا يُختبر فقط صبر الناس، بل تُختبر أيضاً قدرة الحكومة على للتدبير: وقايةً قبل المأساة، وإنقاذاً أثناءها، وإنصافاً بعدها. ما وقع في فاس إثر انهيار بنايتين، ثم ما وقع في آسفي من فيضانات وسيول خاطفة، وقبل ذلك زلزال الحوز ليست أحداثاً متفرقة في الذاكرة الوطنية، بل حلقات متصلة في سؤال واحد: من يتحمل المسؤولية؟ وكيف يُصان حق الضحايا في التعويض؟ وكيف نمنع أن يتحول الحداد إلى ضياع إداري يُسقط الحقوق في صمت؟
في فاس، أكدت المعطيات الرسمية حصيلة ثقيلة: 22 وفاة و16 جريحاً في انهيار بنايتين متجاورتين، مع تدخل فرق الإنقاذ ونقل المصابين إلى المستشفى وفتح تحقيقات لتحديد الأسباب والمسؤوليات. الأرقام ليست هنا مجرد إحصاء، بل مرآة لحقيقة مؤلمة: انهيار البنايات لا يحدث عادة بلا مقدمات. عندما تظهر تشققات، أو تتراكم المخالفات، أو تُسجَّل مؤشرات خطر دون معالجة ناجعة، فذلك يعني أن الكارثة لا تأتي من السماء وحدها، بل قد تكون نتيجة سلسلة من الاختلالات: مراقبة حضرية لا تكفي، صيانة غائبة، إنذارات لا تُعالج بالجدية اللازمة، ومساطر لا تتحول إلى قرارات حماية حقيقية ووحده التحقيق القضائي من يستطيع أن يحدد المسؤوليات الجنائية الفردية، لكن الدولة كمنظومة تُسأل سياسياً وإدارياً: هل لدينا آليات فعالة لتتبع البنايات المهددة بالسقوط؟ هل تُفعل قرارات الإخلاء عند الضرورة؟ هل يُراقَب البناء والتوسعة والتعديل كما ينبغي؟ وهل تُحمى الأسر من الخطر الصامت قبل أن يتحول إلى ركام؟
ثم جاءت آسفي لتعيدنا إلى نوع آخر من الألم، الألم الذي يأتي سريعاً ويجرف معه الوقت والطمأنينة. المعطيات الرسمية التي أعلنتها وزارة الداخلية تحدثت عن حصيلة وصلت إلى 37 وفاة، مع نقل 14 شخصاً إلى المستشفى، وتضرر عشرات المساكن والمحلات وجرف عدد من السيارات، وفتح بحث لتحديد الملابسات. في مثل هذه الوقائع، أسهل جواب هو المطر ، لكن الجواب المسؤول هو المطر وحده لا يكفي لتفسير كل شيء . الكارثة تتشكل علمياً من ثلاث طبقات: خطر طبيعي (أمطار قوية ومركزة)، ثم هشاشة بنيوية (شبكة تصريف لا تستوعب، اختناقات، نقص صيانة، أو توسع عمراني لا يواكبه تجهيز)، ثم تعرّض بشري (سكن ومحلات وطرق في نقاط منخفضة أو قرب مجاري الجريان). سنوات الجفاف قد تزيد من عنف الجريان في بعض الحالات، لكنها ليست بطاقة إعفاء من مسؤولية التهيئة، لأن المدينة التي تُدار جيداً لا تدفع الثمن نفسه حتى تحت نفس السماء. هنا لا نبحث عن مشجب نعلّق عليه الغضب، بل عن حقيقة تقنية وإدارية واضحة: أين كانت نقاط الاختناق؟ هل كانت مجاري المياه مؤهلة ومصانة؟ هل احترام مجالات الأودية ومجاري السيول قائم أم تُترك لتتحول إلى فخ عند أول موجة قوية؟ لأن الوقاية من الفيضانات ليست شعاراً، بل قرارات يومية: تنظيف مجاري، توسيع قنوات، ضبط البناء، هندسة حضرية تُصالح المدينة مع جغرافيتها بدل أن تتحداها.
وبصفتي رئيسة منظمة النساء الحركيات، لا يمكنني المرور على هذه المآسي وكأنها حسابٌ سياسي بارد. في الكوارث، كثيراً ما تكون النساء ضمن الضحايا، لا لأنهن أضعف ، بل لأن الواقع الاجتماعي يضعهن أكثر في مساحات الخطر في اللحظات الأولى: البيت، المحل، الأطفال، كبار السن، رعاية الآخرين قبل التفكير في النجاة. هذا البعد لا يجوز أن يظل هامشياً في السياسات العمومية: أين نضع الإنذار؟ كيف ننظم الإخلاء؟ كيف نوصل المعلومة بسرعة داخل الأحياء والقرى؟ وكيف نضمن ألا تفقد امرأة بيتها ووثائقها ثم تفقد حقها فقط لأنها لم تعرف من أين تبدأ المسطرة؟ الدولة تُقاس أيضاً بقدرتها على حماية الأكثر تعرضاً، لا ببلاغاتها بعد وقوع الفاجعة.
بعد الصدمة مباشرة، يرتفع سؤال التعويض، وغالباً ما يأتي السؤال في شكل استغاثة: إلى من نتوجه؟ ماذا نفعل؟ هل لنا حق؟ والمشكل أن كثيراً من المواطنات والمواطنين لا يعرفون أن المغرب يتوفر اليوم على نظام قانوني خاص بتغطية تبعات الأحداث الكارثية، قائم على منطق يجمع بين التأمين وصندوق التضامن، تحت تأطير قانوني وتنظيمي، وبإشراف الهيئة المكلفة بمراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي، وهو معمول به منذ سنة 2020. المعنى ببساطة: من كان لديه عقد تأمين مناسب يسلك مسار شركة التأمين، ومن لم يكن مؤمَّناً أو لم تكن التغطية كافية قد يستفيد عبر صندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية، لكن بشرط أن تُفعل المساطر وأن يصل المواطن إلى المعلومة في وقتها، وبشكل مبسط، وبلا تعجيز.
هنا بيت القصيد: تفعيل هذا النظام لا يكون بمجرد التعاطف أو الوعود، بل يبدأ بخطوة سيادية واضحة هي صدور قرار رسمي منشور في الجريدة الرسمية يصرّح بوقوع الحدث كواقعة كارثية، ويحدد المناطق المعنية والفترة. بعد ذلك يُفتح سجل خاص لإحصاء الضحايا والمتضررين تُشرف عليه السلطات المختصة. هذا السجل ليس تفصيلاً إدارياً هامشياً، بل هو البوابة التي تُترجم الحق إلى ملف، والملف إلى تعويض. ومن ثم فإن واجب الدولة لا يتوقف عند فتح السجل، بل يبدأ من إعلام الناس به إعلاماً عملياً: أين يسجلون؟ ما هي الآجال؟ ما هي الوثائق الأساسية؟ ماذا تفعل أسرة فقدت أوراقها تحت الركام أو جرفها الماء؟ ماذا تفعل أمّ فقدت معيلاً وهي في حداد؟ لأن المواطن حين يكون تحت الصدمة لا يملك رفاهية البحث عن المعلومة وسط الإشاعات.
المساطر، كما هي في جوهرها، لا تحتاج تعقيداً كي نفهمها. إذا كان المواطن مؤمَّناً، فالمسار الأول هو التصريح لشركة التأمين وفق الآجال التي ينص عليها العقد، وتوثيق الأضرار قدر الإمكان (صور، تقارير طبية، فواتير، محاضر إن وُجدت)، لأن التأخير أو غياب الإثبات قد يُضعف الملف. وإذا لم يكن مؤمناً، أو كانت تغطيته غير كافية، فالمسار الثاني يمر عبر صندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية، بشرط أساسي هو التقييد في سجل تعداد الضحايا داخل الأجل القانوني المرتبط بنشر القرار. هنا تتكرر مأساة صامتة في كل كارثة: الناس لا يعرفون أن الحق له ساعة ، فيبقون في دوامة الحزن ثم يفاجؤون بأن الملف لم يُفتح أو أن الأجل مرّ دون تقييد. هذه ليست مشكلة المواطن وحده، بل مشكلة الدولة حين تترك المعلومة تتسرب بدل أن تصل كخدمة عمومية عاجلة، تماماً كما تصل سيارات الإسعاف.
في النقاش العمومي، يتردد كثيراً حديث عن عتبة وفيات أو حجم أضرار كي تُعلن منطقة منكوبة . ما يمكن قوله بدقة هو أن النصوص المرجعية لنظام التعويض الكارثي تقوم على تقدير رسمي يحدد المناطق المتضررة بقرار منشور، وليس على قاعدة واحدة مبسطة من نوع إذا بلغ عدد الوفيات كذا تُعلن المنطقة . قد تُستعمل مؤشرات كمية وتقارير تقنية في التقييم، وهذا طبيعي، لكن المشكلة ليست في وجود التقييم، بل في غياب الشرح والشفافية: لماذا أدرجت منطقة واستُثنيت أخرى؟ ما معيار الإدراج؟ ما الوثائق المرجعية التي استند إليها القرار؟ حين يغيب الجواب الرسمي الواضح، يتحول الألم إلى شعور بالتمييز، وتتحول الكارثة إلى أزمة ثقة. لذلك، فإن أبسط إصلاح فوري بعد كل حدث هو نشر معايير التحديد وتفسيرها للعموم، لأن الحق لا يعيش في الغموض.
أما التأمين الخاص، فهو الحلقة التي نتعامل معها في المغرب بكثير من التردد. نعم، ثقافة التأمين ليست واسعة، وأسباب ذلك مفهومة: ضغط المعيشة، ضعف الثقة، غموض العقود، وتصور أن التأمين ترف . لكن النظام الذي اختاره المغرب يفترض مشاركة المجتمع في الحماية عبر التأمين، لا لأن الدولة تتنصل، بل لأن توزيع المخاطر يجعل القدرة على التعويض أكبر وأكثر استدامة. هنا يجب أن يكون خطابنا صريحاً وعملياً: كثير من المواطنين لديهم أصلاً تأمين سكن أو سيارة ولا يعرفون ما الذي يغطيه، ولا يعرفون آجال التصريح، ولا يعرفون أن التعويضات قد تتعطل بسبب تأخر في الإخبار أو نقص في الوثائق. المطلوب ليس وعظ الناس، بل تبسيط العقود، وتعميم منتجات واضحة، وخلق ميكرو-تأمين بأسعار معقولة للفئات الهشة، وحوافز تُقرب المواطن من التأمين بدل أن تتركه بين مطرقة الخوف وسندان الجهل بالمسطرة. وإذا كانت الدولة تعتبر ورش الدولة الاجتماعية خياراً استراتيجياً، فجزء منه هو حماية المواطنين من الانهيار المالي بعد الانهيار المادي، ومن التهجير الاقتصادي بعد التهجير الجغرافي.
وعندما ننظر إلى تجارب دولية من باب المقارنة نجد أن المشترك بين الأنظمة الناجحة ليس فقط حجم الأموال، بل وضوح المسطرة وسهولة الوصول إليها، وأن الدولة حين تُعلن كارثة لا تكتفي ببلاغ، بل تفتح تلقائياً قنوات التسجيل والمتابعة وتُنزل المعلومة إلى الشارع: شبابيك متنقلة، أرقام مساعدة، منصات تتبع، ورسائل موحدة لا تترك الناس رهائن للإشاعات. المغرب لا يحتاج أن يستورد نموذجاً جاهزاً، لكنه يحتاج أن يُحسن تفعيل نموذجه: أن يجعل المعلومة جزءاً من الإنقاذ، وأن يخفف عبء الإجراءات عن المواطن في الأيام الأولى، وأن يضع خريطة خدمة واضحة: قرار منشور، مناطق محددة، نقطة تسجيل معلنة، مسار تأمين لمن لديه وثيقة، ومسار صندوق التضامن لمن لا وثيقة له، مع مواكبة إنسانية لمن فقد وثائقه أو قدرته على التنقل.
وفي صلب المسؤولية السياسية، هناك أيضاً ما هو أبعد من التعويض: لأن التعويض مهما كان عادلاً يبقى علاجاً لما وقع، بينما المطلوب هو منع تكرار ما وقع. فاس تضع أمامنا مسؤولية البناء والمراقبة وسلامة العمران، وتفرض مراجعة جدية لملف البنايات المهددة بالسقوط، وصرامة في المراقبة، وربط المسؤولية بالمحاسبة عند التراخي. وآسفي تضع أمامنا مسؤولية التهيئة والتصريف والصيانة والإنذار، وتفرض أن تتحول خطط الحماية من الفيضانات من وثائق إلى أشغال: تنظيف وتوسعة، حماية مجاري الأودية، منع البناء في المسارات الخطرة، وإنذار مبكر قابل للتفعيل. والحوز وضع أمامنا مسؤولية التعويض بوصفه حقاً لا منّة، ومسؤولية التواصل بوصفه شرطاً لضمان هذا الحق.
في النهاية، لا معنى لأن نرفع شعارات الدولة الاجتماعية إن لم تتجسد في أكثر لحظات المجتمع هشاشة. التعاطف واجب، لكنه ليس سياسة. السياسة هي أن نمنع الكارثة قبل وقوعها، وأن ننقذ بأقصى سرعة حين تقع، وأن نُعوض بوضوح وعدل حين ينتهي الغبار وأن لا نترك مواطناً أو مواطنة يكتشفان بعد شهور أن حقهما ضاع لأنهما لم يعرفا أين يصرّحان وفي أي أجل. هذا بالضبط ما يجب أن يتغير، لأن الكرامة بعد الكارثة تبدأ من معلومة صحيحة، ومسار واضح، وتعويض يصل في وقته، ومساءلة لا تُدار بالإنكار بل بالمسؤولية.
رئيسة منظمة النساء الحركيات-
هذا المحتوى مقدم من مدار 21
