أحمد الحطاب: العملُ عبادةٌ

دعونا، في بداية هذا التَّوضيح، نقفَ على تعريف ما هو المقصود بمفهوم ال"عمل".

بصفة عامة، العملُ هو كلُّ نشاطٍ بشري toute activit humaine هدفُها هو إدخالُ تغييراتٍ على الوسط المادِّي من أجل إعمارِه أو عمارتِه أو عُمرانه. والعُمران هو كلُّ ما يترتَّب عن النشاط البشري من نتائج تؤدِّي إلى إدخالِ تغييراتٍ على الوسط المادي لبلدٍ ما، من خلال، مثلاً، الفلاحة، الصناعة، التِّجارة، التِّكنولوجيا

أما من منظور اقتصادي محض، العملُ هو كل نشاطٍ بشري يُتوَّج بإنتاج الثروة la richesse أو الخيرات les biens و بتوفِير الخدمات، علما أن هذه الأخيرة لاغنى عنها لبقاء survie المجتمعات واستمرار وجودِها. وهذه الخدمات تتغيَّر عبر الزمان والمكان، بمعنى أنها تخضع لمُتطلَّبات كل عصر على حِدة. ولهذا، لا مجالَ لمقارنة الخدمات التي تنعم بها المجتمعات المُعاصِرة بتلك التي كانت مُوفَّرةً في الماضي القريب والبعيد.

انطلاقا من هذه التَّوضيحات، يتبيَّن لنا أن العملَ نوعان متناقضان. هناك العملُ الذي يسعى إلى إعمار البلدان من أجل تمدُّنها وتقدُّمِها وتطوُّرِها وازدِهارِها ، سُكَّاناً وبناءً. وهناك العملُ المؤدِّي إلى الخراب والدَّمار والإتلاف ، أي إذا أردنا أن نكونَ أكثرَ وضوحاً، هناك العملُ الصالحُ وهناك العملُ الطالحُ.

إذن، عبارة "العمل عبادة" غير واضحة لأنها لا تميِّز بين ما هو "عملٌ صالحٌ" وما هو "عملٌ طالِحٌ". كان من الأجدر أن نقولَ "العملُ الصالحُ عبادة". وهذا يعني أن المُداولبن لهذه العبارة، قد لا يُميِّزون بين العمل الصالح والعمل الطالح، أو بعبارة أوضح، حينما ينطقون بهذه العبارة، لا يروج في أدمِغتِهم إلا العمل الصالح.

أما العمل الصالح، فهو كل نشاطٍ بشري ينفع البلادَ والعبادَ. أما العمل الطالح، فهو كل نشاطٍ بشري يُؤدِّي إلى الفساد والإفساد. فإذا كان هناك عملٌ صالحٌ وعملٌ طالحٌ، "فلماذا يُقالُ العملُ عبادةً"؟

قبل الجواب على هذا السؤال، دعونا نوضِّح ما هو مقصودٌ من كلمة "عِبادَة". العبادة هي كل الأقوال والأفعال (الأعمال) التي ينطق بها/يقوم بها شخصٌ ما من أجل التَّقرُّب من الله والخضوعُ لشرائعه الدينية ولأوامِرِه. وبعبارة أخرى، العملُ الصالِح هو كل التَّصرُّفات التي يستوجبُها الإيمانُ بالله وتوحيدُه وطاعتُه.

وجواباً على السؤال المُشار إليه أعلاه، أي "فلماذا يُقالُ العملُ عبادةً"؟

أولاً وكما سبق الذكرُ، لأن الناسَ الذين يتداولون هذه العبارة، قد لا يخطُرُ ببالهم إلا العملُ الصالحُ. وهذا، فعلا، ما يفكِّر فيه أغلبيةُ الناس. إذ لا يُعقَل أن يُشيدَ الناسُ بأعمالٍ تؤدِّي إلى الخراب ويُدخِلونها في نطاق عبادة الله، واللهُ، سبحانه وتعالى، يقول، في قرآنه الكريم : "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران، 104).

في هذه الآية الكريمة، "...يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ "، أي يوصون الناسَ بالقيام بالأعمال الصالِحة التي تنفع البلادَ والعبادَ. ويوصونهم، كذلك، باجتناب الأعمال الفاسدة والمفسِدة.

إذن، كل ما يقوم به الناسُ المؤمنون والمُتَّقون من أعمالٍ، خارجَ الالتزام بأداء أركان الإسلام، وعندما تستجيب هذه الأعمال للإرادة الإلهية، فهي أعمالٌ تدخل في نطاق عِبادة الله، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل، 97).

في هذه الآية الكريمة، كلمة "صالح" تعني كلَّ عملٍ ينفع البلادَ والعباد. وما يُثيرُ الانتباهَ في نفس الآية، أولا، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُساوي في الأجر أو في الجزاء بين الذكر والأنثى. وفي نفس الآية، يقول، عزَّ وجلَّ، "وَهُوَ مُؤْمِنٌ"، أي مؤمنٌ بوجود الله وبوحدانيته ولا يُشرك به أحدا. وما يُثير الانتباهَ، كذلك، هو أنه، سبحانه وتعالى، لم يقل وهو مسلمٌ أو نصراني أو يهودي.

والناسُ الذين قاموا بأعمالٍ صالحة استفادت ولا تزال تستفيد منها البشرية جمعاء، أرضاً وعِبادا، كثيرون، منذ أن نفخ الله، سبحانه وتعالى، جزأً من روحه في جسم آدم عليه السلام. فمنهم المؤمنون ومنهم الجاحدون لوجود الله ولوحدانيته. فهؤلاء لهم أجرُهم في الدنيا وأحسن منه في الآخرة.

إذن، عندما نقول "العمل عبادة"، ما يجب أن يخطرَ ببالنا، هو، بالطبع، "العمل الصالح". وحتى يكونَ العملُ الصالح عبادةً، أول شرطٍ يجب أن يتوفَّرَ فيه هو الإخلاص. والإخلاص في العمل، هو التفاني في أدائه والوصول إلى تحقيق الغاية أو الغايات المَرجوة منه. ثاني شرط، هو أن يُعتبر كل عمل، مهما كان بسيطا أو معقَّداً، خطوة من الخطوات التي تخدم الصالح العام.

والإخلاصُ في أداء العمل واعتبارُه خطوة تسير في اتجاه خدمة الصالح العام، صفتان أساسيتان يجب أن يتوفَّرَ عليهما كل شخص، من المجتمع، يريد أن يكونَ عملُه مأجوراً في الدنيا والآخرة. في الدنيا، بإحساس بطمأنينة نفسية بأنه أدى واجباً. وفي الآخرة، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" (الكهف، 30).


هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من جريدة كفى

منذ 3 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ 3 ساعات
هسبريس منذ 8 ساعات
موقع بالواضح منذ 3 ساعات
هسبريس منذ 17 ساعة
هسبريس منذ 20 ساعة
جريدة أكادير24 منذ 48 دقيقة
2M.ma منذ 6 ساعات
صحيفة الأسبوع الصحفي منذ 48 دقيقة
هسبريس منذ 3 ساعات