بالعودة إلى الماضي القريب، وتحديدا إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بل إلى حدود الثمانينيات، كان فصل الشتاء أشد قسوة وأقل رحمة. ومع ذلك، لم يكن المطر سببا في تعطيل الدراسة ولا في شلل الحياة. كنا تلاميذ صغارا نقطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام، عبر

«عِيش نهار تسمع خبار» حكمة شعبية يستحضرها الناس كلما وقع أمر يتنافى مع المألوف. واليوم، مع أولى التساقطات المطرية، تعلق الدراسة في عدد من المناطق، وكأن المطر ظاهرة غريبة حلت علينا فجأة، لا علاقة لها بدورة الفصول ولا بذاكرة المكان.

بالعودة إلى الماضي القريب، وتحديدا إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بل إلى حدود الثمانينيات، كان فصل الشتاء أشد قسوة وأقل رحمة. ومع ذلك، لم يكن المطر سببا في تعطيل الدراسة ولا في شلل الحياة. كنا تلاميذ صغارا نقطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام، عبر طرقات ترابية موحلة، شبه حفاة وبملابس بسيطة لا تقي بردا ولا مطرا. لم تكن هناك حافلات نقل مدرسي ولا طرق معبدة، ولم يكن في انتظارنا سوى إرادة الوالدين وصبرهم.

كنا نعود إلى بيوتنا الطينية، محافظنا مبتلة وأجسادنا مكسوة بالوحل، فنجد نارا موقدة وشرابا ساخنا يدفئ بطونا أنهكها البرد. كانت معاناة مشتركة يتساوى فيها التلميذ والأستاذ؛ هذا الأخير الذي لم تكن تعيقه قسوة الظروف عن أداء واجبه بأقصى درجات المهنية، ولا تمنعه صعوبة حال التلميذ من الصرامة، وربما من الضرب والجلد كما كان شائعا آنذاك، دون حنان ولا شفقة.

صور قاسية لا يكاد الزمن يمحوها من الذاكرة: أصابع متجمدة لا تقوى على الالتئام، أقدام لا نشعر بحملها من شدة البرد، غياب تام للملابس الواقية، وسيول لا تخيفنا، ووحل لا يعيق مسيرتنا. كنا نذهب إلى المدرسة مهما بلغت قسوة المناخ، لا تخلف ولا غياب، مقاومين بالفطرة، وآباء متعودين على الصبر والخشونة. طفولة قاسية بقلوب من حجر: زمهرير في الأجساد، وصرامة في الأقسام، وبيوت تقطر ماء من كل ركن، ومع ذلك كبرنا، ولم نمت.

اليوم، تغير كل شيء. نقل مدرسي وعائلي، مؤسسات تعليمية أقرب، طرقات معبدة، زمن تعليمي مختصر، عطل دراسية متكررة، ملابس دافئة وإمكانات أفضل، بل ومناخ أقل قسوة مما كان. ومع ذلك، تعلق الدراسة عند أول قطرة مطر، وكأننا أمام ظرف استثنائي غير مسبوق.

لسنا هنا ضد سلامة التلاميذ ولا ضد اتخاذ الاحتياطات اللازمة في حالات الخطر الحقيقي، لكن السؤال يظل مشروعا، متى تحول المطر من ظاهرة طبيعية مألوفة إلى مبرر لتعطيل الدراسة؟ وهل المشكلة في المطر أم في هشاشة البنية، وضعف الاستعداد، وتراجع ثقافة التحمل والمسؤولية؟

إنها مفارقة زمنية تستحق الوقوف عندها، لا حنينا إلى قسوة الماضي، بل بحثا عن توازن مفقود بين حماية المتعلمين وترسيخ قيم الجدية والانضباط. عيش نهار تسمع خبار بالفعل.


هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من جريدة كفى

منذ 4 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 11 ساعة
جريدة كفى منذ 12 ساعة
موقع بالواضح منذ 5 ساعات
هسبريس منذ 8 ساعات
هسبريس منذ 19 ساعة
هسبريس منذ 10 ساعات
هسبريس منذ 9 ساعات
هسبريس منذ 5 ساعات