ملخص دخل القطار الأغنية والشعر بوصفه رمزاً للسفر والاشتياق والزمن المتحرك، وحضرت صور صفيره ومساراته في المخيلة الشعبية كعلامات على الرحيل والعودة. وجاءت الحرب خلال أبريل 2023 وكادت تقضي على آخر ما تبقى من ذلك.
تشكل ارتباط القطار بالوجدان السوداني عبر الزمن بوصفه جزءاً من الحياة اليومية ومعنى راسخاً للحركة والوصل داخل بلد واسع الامتداد. اتساع جغرافيا السودان وتباعد مدنه وقراه جعلا القطار حاجة طبيعية ومكوناً أساساً لفكرة الاجتماع الوطني، إذ تحول السفر بالقطار إلى تجربة مشتركة تعكس طبيعة المجتمع وتنوعه. لم يكن القطار مجرد وسيلة انتقال، بل صاغ إطاراً اجتماعياً كاملاً تُبنى داخله العلاقات وتتشكل فيه الذكريات، وتختبر فيه معاني الصبر والانتظار والعودة.
LIVE An error occurred. Please try again later
Tap to unmute Learn more رسّخ القطار حضوره بوصفه أداة منتظمة لحركة الناس والبضائع، ومعبراً عن فكرة العمل الجماعي والانضباط. رافق المواسم الزراعية وواكب انتقال العمال والموظفين والطلاب وربط مناطق الإنتاج بالمدن والأسواق، وأسهم في خلق إيقاع اقتصادي ثابت يعتمد على الاستمرارية والموثوقية.
نشأت حول القطار أنماط عيش كاملة وتعلقت به شرائح واسعة من المجتمع، فصار جزءاً من دورة الحياة اليومية وحاضراً في تفاصيل الرزق والتنقل والاستقرار. وصنع القطار فضاء مفتوحاً التقت فيه طبقات المجتمع المختلفة من دون حواجز.
في عرباته تداخلت اللهجات وتجاورت العادات وتبادلت الحكايات بين غرباء جمعتهم رحلة واحدة، وصارت المحطات نقاط التقاء تحمل طابعاً إنسانياً خاصاً، لحظات انتظار وحقائب متراصة ووجوه متعبة وأخرى متلهفة ومشاعر تتأرجح بين الفرح والحنين. مع كل رحلة، كان القطار يعمّق الإحساس بالمكان، ويوسع معنى الانتماء إلى وطن يتجاوز حدود القرية والمدينة.
هذا الحضور ترك أثره الواضح في الذاكرة الثقافية السودانية، إذ دخل القطار الأغنية والشعر بوصفه رمزاً للسفر والاشتياق والزمن المتحرك، وحضرت صور صفيره ومساراته في المخيلة الشعبية كعلامات على الرحيل والعودة، إلى أن جاءت حرب أبريل (نيسان) 2023 وكادت تقضي على آخر ما تبقى من ذلك.
تحولت سكة الحديد السودانية خلال عام 1989 من أحد أعمدة الاقتصاد الوطني إلى قطاع منهك يعمل بأقل من طاقته الفعلية (أ ف ب)
تراجع حاد تعد سكة الحديد في السودان واحدة من أكبر شبكات النقل الحديدي داخل القارة الأفريقية، وإحدى أقدم مشاريع البنى التحتية التي شكّلت ملامح الاقتصاد والمجتمع والدولة. أُنشئت الشبكة الأولى خلال عام 1897 ضمن سياق سياسي وعسكري مرتبط ببداية الحكم الثنائي، ثم تحوّلت تدريجاً إلى شريان اقتصادي واجتماعي ربط بين الأقاليم وغيَّر أنماط الحياة والعمل والتنقل داخل بلد واسع المساحة ومتعدد الموارد.
بحسب بيانات رسمية، يمتلك السودان نحو 4725 كيلومتراً من السكة الحديد ذات المسار الواحد، كانت تربط العاصمة الخرطوم بمدن محورية مثل عطبرة ومدني وسنار والأبيض ونيالا وبورتسودان. وصممت الشبكة في الأساس لنقل البضائع الثقيلة بأسعار منخفضة خصوصاً القطن والصمغ العربي والحبوب والماشية، مع توفير خدمة ركاب زهيدة الكلفة جعلت القطار وسيلة النقل الأكثر انتشاراً لعقود طويلة.
وخلال النصف الأول من القرن الـ20 أصبحت سكك الحديد العمود الفقري للاقتصاد السوداني، وأسهمت في دمج الأقاليم الزراعية والأسواق وربطت مناطق الإنتاج بالموانئ ودفعت إلى نشوء مدن عمالية مثل عطبرة التي تحولت إلى مركز صناعي ونقابي بارز. وأعادت تشكيل الحياة الاجتماعية عبر تسهيل حركة الطلاب والموظفين وتعزيز التواصل بين المجتمعات المحلية المتباعدة.
اعتمد تفوق هذا النظام على تطوره التدريجي من أداة عسكرية إلى شبكة تجارية وطنية. فبعد اكتمال خط وادي حلفا - الخرطوم نهاية القرن الـ19 جرى فتح خط عطبرة - بورتسودان عام 1906 لتأمين اتصال مباشر بالبحر الأحمر، ثم توسعت الشبكة جنوباً وغرباً نحو سنار والجزيرة والأبيض ودارفور، وصولاً إلى نيالا عام 1959 ثم واو عام 1961، وبذلك اكتملت الخطوط الرئيسة التي بلغ طولها نحو 4800 كيلومتر بحلول عام 1990.
غير أن هذا الإرث واجه تراجعاً حاداً منذ ثمانينيات القرن الماضي بفعل الاضطرابات السياسية وتراجع الاستثمار والعقوبات الاقتصادية، إذ لم يستورد السودان قطارات جديدة منذ عام 2014 واستمر اعتماده على بنية تحتية يتجاوز عمرها 50 عاماً. وفي ورش عطبرة وبورتسودان، تقف قاطرات أميركية وصينية وأوروبية متوقفة عن الخدمة بفعل نقص قطع الغيار والأزمة المالية.
يرى خبراء اقتصاد النقل أن استعادة دور سكك الحديد تمثل مفتاحاً لإعادة تنشيط الاقتصاد الوطني وتقليل كلفة النقل وربط الموانئ بالأقاليم المنتجة، وعلى رغم التدهور تظل سكك الحديد السودانية رمزاً تاريخياً لبناء الدولة الحديثة، وشاهداً على مرحلة لعب فيها القطار دوراً محورياً في تغيير حياة الناس وتوحيد الجغرافيا وصياغة مفهوم الحركة المشتركة داخل السودان.
تحاول الحكومة إعادة إحياء ما تبقى من منظومة السكة الحديد بوصفها شرياناً اقتصادياً واجتماعياً منخفض الكلفة في زمن الانهيار (أ ف ب)
تفاقم الخسائر دخلت السكة الحديد السودانية مرحلة التدهور الحاد مع وصول نظام عمر البشير إلى السلطة عام 1989، لتتحول من أحد أعمدة الاقتصاد الوطني إلى قطاع مُنهك يعمل بأقل من طاقته الفعلية. ورث النظام شبكة واسعة تعاني اختلالات تراكمية، غير أن السياسات التي اتبعت لاحقاً عمقت الأزمة عبر التسريح الجماعي للعمالة المؤهلة وتسييس الإدارة وتراجع الصيانة، مقابل صعود متسارع لشركات النقل البري الخاصة التي سيطرت على سوق الشحن بدعم سياسي واقتصادي مباشر.
وخلال التسعينيات، قدرت طاقة تشغيل السكك الحديد بأقل من 20 في المئة نتيجة فقدان الكفاءات ونقص قطع الغيار وتآكل البنية التحتية. ومع مرور الوقت، تراجع الاعتماد على القطار لمصلحة الشاحنات على رغم ارتفاع كلفة النقل البري، وبحلول عام 2013 بات نحو 90 في المئة من نقل السلع في السودان يتم عبر الطرق المعبدة، وهو تحول انعكس مباشرة على التضخم وارتفاع كلف المعيشة.
تكشف.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية

